بعد طول تردّد، خَطت الحكومة أولى خطواتها في اتجاه توحيد سعر صرف الدولار وفق ما يطالب به صندوق النقد الدولي. لكنّ الخطوة الثانية، والتي يُفترض ان تؤدّي الى ارتفاع سعر الصرف الرسمي الى مستوى السعر الحقيقي الذي يعكسه واقع السوق والواقع الاقتصادي الحالي، دونها عقبات من العيار الثقيل.
لم يفهم، أو يتفهّم كثيرون خلفيات وتداعيات قرار رفع سعر صرف الدولار الرسمي الى 15 الف ليرة، خصوصاً انّ القرار جاء بشكل مفاجىء، وعلى لسان وزير المالية في حديث صحافي، من دون تقديم اية توضيحات اضافية. لكن التوضيحات توالت تباعاً، ولو بشكل متقطع وغير جازم، سواء في بيان وزارة المالية نفسها الذي صدر بعد ساعات على التصريح لتهدئة البلبلة التي تسبّب بها، او على لسان رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي الذي تحدث بتفصيل إضافي عن الاستثناءات، وهي بيت القصيد الذي شغل المواطنين وأقلقَهم.
وكان واضحاً منذ البداية ان قرار الـ15 الف ليرة يمكن ان يؤثر على ثلاث نواحٍ:
اولا – القيود المحاسبية للمصارف والشركات وميزانيات هذه المؤسسات التي كانت لا تزال تحتسب سعر الصرف الرسمي على 1500 ليرة، وتقيّم اصولها وتقيّد حساباتها على هذا الاساس.
ثانيا – الرسوم والضرائب التي تجبيها الدولة او مؤسساتها الرسمية، والمُقيَّمة على اساس سعر صرف الدولار.
ثالثا – القروض الشخصية لدى المصارف والتي يتمّ سدادها من قبل المواطنين، وبناء على قرار أصدره مصرف لبنان على 1500 ليرة للدولار.
واستناداً الى توضيحات ميقاتي يمكن استنتاج ما يلي:
اولاً – في القيود المحاسبية، سيتم استثناء اصول القطاع المصرفي من قرار سعر الـ15 الف ليرة. وهذا الامر يرتبط باحتساب توزيع الخسائر الذي سيتم بناء على الخطة الاقتصادية المتّفق عليها مع صندوق النقد الدولي. اذ إن رساميل المصارف والبالغة حوالى 22 مليار دولار، مقيّمة بالليرة، بما يعني انه اذا تمّ تغيير سعر الصرف الرسمي من 1500 الى 15 الف ليرة، فإنّ قيمة هذه الرساميل ستنخفض دفترياً من 22 ملياراً الى 2,2 مليار دولار. وهذا يعني زيادة تعقيدات البحث عن مصادر اخرى لسدّ فجوة الخسائر.
ثانياً – القروض الشخصية، بما فيها السكنية، سيتم استثناؤها ايضا، بحيث ان المواطن سيتمكّن من استكمال سداد قرضه على سعر الـ1500 ليرة. لكن الكلام عن مهلة زمنية محددة لهذا الاستثناء يعني انه قد يتم الضغط لتسريع سداد ما تبقى من هذه القروض. لكن ستبقى مسألة قروض الشركات مُعلّقة.
ثالثاً – بالنسبة الى الرسوم المقيّمة على سعر صرف الليرة مقابل الدولار، من الواضح ان الحكومة تعتبر انها تحتاج الى زيادة ايرادات الخزينة من خلال هذا القرار، بما يؤكد ان هذه الرسوم والضرائب سترتفع عشرة اضعاف مرة واحدة، وسيشعر المواطن بثقلها في تقليص قدراته الشرائية التي وصلت في الاساس الى الحضيض.
رابعاً – بالنسبة الى اسعار الصرف الاخرى، المرتبطة بتعاميم أصدرها مصرف لبنان، ويتم العمل بموجبها، في السحب (التعميم 151) او في اعادة الودائع (التعميم 158) فإنها لن تتبع بالضرورة سعر الصرف الرسمي. وهي في الاساس لم تكن مطابقة لهذا السعر. لكن ذلك لا يمنع انه، وبعد دراسة التأثيرات المتعلقة بالتضخّم وسوق الصرف، قد يتمّ تغيير اسعار سحب الودائع الدولارية بالليرة بالنسبة الى التعميمين المذكورين.
يبقى السؤال، متى قد تُقدم الحكومة، وبالتعاون مع مصرف لبنان على تنفيذ المرحلة الثانية من توحيد سعر الصرف الرسمي، وما هو السعر الموحّد الذي سيُعتمد في حينه؟
من خلال كلام ميقاتي، يُستدلّ على ان الحكومة لا ترغب في استكمال خطوة توحيد سعر الصرف قبل توقيع الاتفاق مع صندوق النقد، وبدء تنفيذ خطة التعافي. وهذا الربط يعود الى تهيُّب الحكومة الاقدام على مِثل هذه الخطوة قبل تغيير نسبي في المشهد المالي والاقتصادي، وربما السياسي أيضاً. اذ انّ اعتماد سعر منصة صيرفة لا يمكن ان يحصل من دون المجازفة ببقاء السوق السوداء قائمة. وأي محاولة لخفض سعر دولار السوق السوداء سيؤدّي الى خسائر مالية كبيرة لا قدرة لمصرف لبنان على تحمّلها. كما انّ ذلك يعني المزيد من التجميل الاصطناعي لسعر الصرف، وانه ما ان ينتهي مفعول الدولارات التي قد يتمّ ضخّها في السوق، حتى يعاود الدولار مسيرة الارتفاع وصولاً الى مرحلة التوازن في السوق. عندها يمكن تحديد السعر الحقيقي للدولار، والذي يمكن الدفاع عن إبقائه شبه مستقر (floating change) وليس ثابتاً بالطبع.
في النتيجة، هناك رأيان في هذه المرحلة: رأي يقول بتوحيد اصطناعي لسعر الصرف بحيث يمكن اعتماد سعر منخفض نسبياً، (سعر السوق السوداء الحالي)، ومن ثم التخلّي عن التدخّل المباشر، وإلغاء التعميم 161، وترك سعر الصرف يأخذ مداه قبل ان يستقر على سعر واقعي. ورأي آخر يقول بوجوب الانتظار ووقف التدخل في السوق وترك الدولار يستقر على سعره المرتبط بالعرض والطلب، ومن ثم الإقدام على توحيده ليكون سعراً حقيقياً وشبه مستقر منذ البداية.
لكن، وبصرف النظر عن النظريتين، ما هو ثابت انّ سعر الدولار الحالي في السوق السوداء منخفض بسبب دعمه عبر صيرفة. واستناداً الى مسار الدولار قبل لَجمه اصطناعياً بدءاً من منتصف كانون الاول 2021، فإن سعره، وقياساً بالمنحنى الذي اتّبعه بين 2020 (ارتفع 300 %) و2021 (ارتفع 200 %) يُفترض ان يختتم العام 2022 (على حسابات الارتفاع 150 %) على سعر 60 الف ليرة. لكنه قد لا يبلغ هذا السقف، بفضل تأثيرات التعميم 161. والسؤال هو: الى أين سيتجه الدولار بعد توحيد سعر الصرف ووقف العمل في التعميم 161؟