رَتقُ العلاقة المتفتّقة بين ترويكا مصرف لبنان والسلطة السياسية والمصارف، ما عاد يصلح إلاّ بتسوية كبيرة. وكلما زادت الأزمة كبُرَ حجم التسوية المطلوبة. إذ انتقل صراع الأقطاب حول تحميل المسؤوليات من الاتهامات الكلامية إلى الدعاوى القضائية والحجز على الممتلكات ومنع السفر والتوقيف. والمصارف هي الحلقة الأضعف في هذه اللعبة بين أطراف الترويكا، يليها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
على أن وصول العلاقة إلى هذا الحدّ لم يكن مفاجئاً، بل توقّعته المصارف واستبقته منذ نحو 9 أشهر، بتحذير كبير مفاده اللجوء إلى الإقفال وصولاً إلى إعلان الإفلاس. وكنا قبل الصدام القضائي-المصرفي تناولنا ما يجري في الكواليس تحت عنوان “المصارف تتحضّر للانتقام من عون وسلامة”.
سحب الأموال خلال الإقفال
تدرك جمعية المصارف أن إقفال أبوابها يوميّ الإثنين والثلاثاء القادمَين “ليس حلاًّ”، على ما تقوله مصادر في الجمعية. وفي الوقت عينه “عدم الإقفال أيضاً ليس حلاً”. وتتابع المصادر في حديثها لـ”المدن”، أن الأمور “لا تُعالَج بهذه الطريقة، لا بالإقفال ولا باللجوء إلى القضاء والحجز على ممتلكات المصارف وأصحابها ورؤساء مجالس إداراتها، فهذا يزيد الوضع سوءاً، إلاّ إن كان الهدف دفع المصارف إلى الإقفال النهائي”.
الإقفال المؤقّت يعني حرمان الموظفين والمودعين من سحب رواتبهم ومستحقاتهم “لكن في أيام الإقفال ستستمر خدمات الصرافات الآلية ATM ويمكن للمودعين والموظفين سحب أموالهم عبرها”. وفي حال نفاد الأوراق النقدية في الصرافات الآلية، فعلى أصحاب الحقوق انتظار ملئها. وهذه العملية خاضعة لاستنسابية المصارف من خلال حجم الأموال التي تملكها. “فالمصارف تنتظر الأموال من أرباب العمل سواء في القطاع الخاص، أو أموال الدولة بوصفها رب العمل لموظفي القطاع العام، وإذا تأمّنت السيولة، تُصرَف لأصحابها، وفي حال عدم تأمينها فستقع الأزمة. والمصارف ليست هي من يطبع المال لتؤمّن الحاجة المطلوبة”.
هكذا، تمهّد المصارف لأزمة رواتب وإيداعات، بحجة الضغط عليها من قِبَل القضاء والطبقة السياسية ومصرف لبنان. أما تصاعد حدّة الصراع، فيهدّد التجّار الذين سيواجهون مشكلة فتح اعتمادات للاستيراد والتصدير. فاعتكاف المصارف يعرقل حصول التجار على الدولارات من مصرف لبنان على سعر منصة صيرفة وتحويلها للشركات والتجار في الخارج. ولتفادي التداعيات، ترى المصادر أن “الحل ليس سريعاً، وعلى السلطة البدء بإقرار قانون الكابيتال كونترول”.
تحذير مسبق
الخطوة التي أعلنتها المصارف كان مُخطّطاً لها مسبقاً وجاهزة للتطبيق في أي لحظة مناسبة. واستشعرت المصارف السكّين حول رقبتها عندما بدأ حاكم مصرف لبنان إصدار سيلٍ من التعاميم تحرجها وتضغط عليها لتأمين سيولة إضافية لمودعيها ولزيادة رساميلها. على أن الضغط الأقوى، كان في إعلان سلامة منذ نحو 9 أشهر بأن “على المصارف تطبيق التعاميم بدقة. فقد حان الوقت لتتحمل المصارف والمساهمون مسؤولياتهم بإعادة تكوين التزاماتهم”.
حتى تلك اللحظة، كانت المصارف تحاول استمالة سلامة لتخفيف الضغط عنها، فجدّدت لرئيس مجلس إدارة ومدير عام بنك بيروت سليم صفير، كرسيّه على عرش الجمعية، فلا أحد من أعضائها يريد الوقوف في الواجهة خلال الصراع، كما أن لصفير علاقة جيدة بسلامة. إلاّ أن توقّعات الجمعية لم تتحقق، فأعلن صفير في مطلع شهر تموز 2021، أن “إقفال أي مصرف وإفلاسه يعني ضياع كل الأموال وصرف مئات العائلات ووقف كل الخدمات المالية لمئات آلاف الناس”. ووجَّهَ سهامه نحو السلطة التي تجعل المصارف والمودعين “فريقين يتقاتلان”، وعبر هذا القتال “يفلت أولئك من المحاسبة”.
خوفٌ من الخارج
ليس الداخل ما يقلق المصارف فقط، بل الخارج أيضاً. فازدياد الأحكام القضائية بحق المصارف وأصحابها وكبار مدرائها ينسحب على موقف الدول التي فيها فروعٌ مصرفية أو ممتلكات لأصحابها ومدرائها. وهذه الدول تسارع للحجز على الممتلكات فيما لو جرى التواصل مع القضاء اللبناني أو تبيَّنَ وجود تحايل على القانون وإخفاء لأموال غير مشروعة من خلال شركات وهمية وما شابه. فأي تصدّع في سمعة المصارف والمتّصلين بها، سيفتح العيون حول كل أعمالها في الخارج، وهذا ما لا تريده، فمَن سيتعامل مع مصارف متّهمة بالفساد ومحجوز على أملاكها وسمعة أصحابها ومدرائها في الحضيض؟
والتأثير الخارجي “يصيب المودعين في لبنان أيضاً”، تقول المصادر. فالأحكام القضائية “تمنع المصارف من التحكّم بكتلة نقدية كبيرة من حساباتها في الخارج، بالامكان توزيعها على عدد من المودعين”.
طرح التسوية
استعادة التحذيرات القديمة وتنفيذها والتخويف من تأثيرات الدعاوى القضائية والتلويح بشحّ الأموال إما بالحجوزات أو بإعطائها لأفراد على حساب جماعات من الموظفين والعسكريين، يرسل إشارات للسلطة ومصرف لبنان بأن المصارف تطرح تسوية للصراع تُهدّىء اللعبة. لكن لا تجد المصارف صدى لرسالتها، لأن السلطة تريد كبش فداء وحاكم المصرف المركزي يريد تخفيف المسؤوليات عن ظهره.
على أن هذه النوع من العلاقات ينتهي غالباً بتسوية، ما زالت اليوم غير محسومة، وقد تبدأ بتخفيف القيود على المصارف عبر عدم إصدار مصرف لبنان تعاميم “ضاغطة”، وكذلك تجميد الدعاوى القضائية ووقف الملاحقات بحق المصارف والمصرفيين. لكن تحقيق تسوية كهذه ستؤجَّل إلى ما بعد إجراء الانتخابات أو إلى ما بعد تطييرها.
Comments 1