يتجدّد النقاش بين الفينة والأخرى، حول ما إذا كانت الأزمة المالية المصرفية في لبنان “نظامية أم غير نظامية”؟! جمعية المصارف تدفع دائماً باتجاه اعتبارها “نظامية”، بحسب قراءة خاصة لهذا المفهوم.
من وجهة نظر الجمعية، ما تعانيه البنوك ليس متعلقاً بسوء إدارة ولا ركوب مخاطر. فالمصارف قامت بكل ما عليها وفق الممارسات السليمة برأيها. وإذا كان هناك من مشكلة فلأن مصرف لبنان أجبرها بتعاميم متتالية منذ التسعينات حتى تاريخه على إيداع وتوظيف معظم ودائع الناس لديه. وبالتالي، الأزمة أكبر من أن تتحمّلها وحدها، لأنها أزمة مالية عامة للدولة بالدرجة الأولى، انعكست على أداء مصرف لبنان لينخرط في تمويل الخزينة العامة. فإذا تعثرت الدولة، وقررت كما قررت التوقف عن الدفع، فإن التعثر سينعكس حتماً على بقية السلسلة، فتقع أحجار الدومينو جميعاً. ومن هنا تأتي سردية الجمعية القائمة على رفضها الخطط الحكومية المطروحة بحجة حرصها (الدعائي) على ودائع الناس أولاً!
توصيفها بـ “النظامية” يفتح الباب واسعاً لإصلاح النظام
في المقابل، هناك من يعتبر الأزمة نظامية من وجهة نظر مختلفة تماماً عن تلك التي تدّعيها جمعية المصارف، بل تتحدث عن ضرورة قصوى للتوصيف النظامي لنستطيع عندئذ إصلاح النظام. وتبدأ بالقول إن جهات وأشخاصاً في الدولة أخطأوا، لا بل ارتكبوا خطايا وجرائم مالية. ومن عندهم تبدأ المساءلة والمحاسبة لتمرّ بمصرف لبنان، وصولاً الى مجالس إدارات المصارف وكبار التنفيذيين فيها. وليس صحيحاً انه لم يكن لدى البنوك من خيار غير ايداع أموال المودعين في مصرف لبنان، لا بل كانت لديهم خيارات أخرى كثيرة. فهذه السلسلة المترابطة في محرمات العلاقات بين المصالح تعني أن الأزمة نظامية. وإذا أقررنا بذلك، فالمحاسبة ضرورية كي لا يبقى الكلام على عواهنه بإلقاء اللوم على “الدولة” مع تجهيل الفاعلين. الى ذلك، يضيف من يعتبر الأزمة نظامية مع اختلاف في التفسير الجوهري مع جمعية المصارف: يمكن أن تشمل المحاسبة التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، بالاضافة الى تدقيق مماثل في الودائع لمعرفة الفاسد فيها والمتهرّب من الضرائب والمتربّح على حساب المال العام في المقاولات والتوريدات والعطاءات الأخرى. ولا بأس بعد ذلك بتحمل الدولة جزءاً من الودائع الباقية للمودعين الذين تعبوا في أموالهم سواء كانوا من المغتربين أم من المتقاعدين أم غيرهم. ويضاف الى ذلك ضرورة تطبيق اتفاقية “سي آر اس” التي يمكن للبنان تحصيل مئات الملايين منها سنوياً لخزينة الدولة، من أثرياء لبنانيين في الخارج يتهرّبون من الضرائب.
صندوق النقد يرغب في تجنيب الدولة تجرّع الكأس المرّة
من جهته لا يعترف صندوق النقد الدولي باعتبار أزمة لبنان المالية والمصرفية نظامية. بدليل انه طلب تدقيقاً في موجودات المصارف بنكا بنكاً بدءاً من أكبر 14 بنكاً تستحوذ على 83% من أصول القطاع. كما ان الصندوق لا ينصح في التوسع باستخدام أصول الدولة لإطفاء الخسائر. لذا يرفض مسؤولية الدولة عن تلك الأزمة وخسائرها الهائلة التي بلغت نحو 75 مليار دولار راهناً وكل يوم تزيد. وبالتالي لم يوافق على مساهمة الدولة في إطفاء خسائر مصرف لبنان. بل وافق، وعلى مضض، على إعادة تمويله بسندات قيمتها 2.5 مليار دولار، على ان تشطب باقي الخسائر التي حصل تلاعب في تصنيفها لجهة وضعها في ميزانية مصرف لبنان زوراً باعتبارها “موجودات أخرى”.
ميقاتي- الشامي- سلامة: لا يموت الديب ولا يفنى الغنم!
تقف الحكومة، على طريقة رئيسها نجيب ميقاتي ونائبه سعادة الشامي ومعهما حاكم مصرف لبنان، في منتصف الطريق بين نظامية وغير نظامية. ذلك الموقف قائم على مراوغة ولعب على الكلام بعيداً عن أي مساءلة ومحاسبة مع ميل الى تحميل الدولة جزءاً من الخسائر بالإضافة الى المصارف والمودعين… فيضيع دم القتيل بين القبائل! فالحديث عن ودائع مؤهلة وغير مؤهلة وشطب فوائد يأتي في سياق تحميل المودع أيضاً مسؤولية خيارات وقرارات ليس هو مسؤولاً عنها مباشرة، بل المصارف ومصرف لبنان والجهات الرقابية المعنية بالقطاع المالي.
صندوق وهمي بشروط تعجيزية لاسترداد الودائع
وفي مشروع قانون إعادة التوازن المالي قسم خاص تحت عنوان “إنشاء صندوق لاسترجاع الودائع”. ورد فيه ان الدولة تخصص بعض الايرادات المستقبلية لصالح الصندوق اذا توفرت الشروط التالية:
– تجاوز هذه الايرادات معايير محددة مقارنة بدول مشابهة (شرط مبهم)
– وصول الدين العام الى اقل من المستوى المستهدف (رهن سنوات وسنوات طويلة من التقشف)
– المحافظة على النفقات الاجتماعية، وعلى إمكانية تمويل اي عجز في الموازنة (اولويتان تحولان دون بقاء الشيء الكثير)
– إتمام برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي بنجاح (شرط شبه تعجيزي بالمعطيات السياسية القائمة والمستمرة مستقبلاً)
خطر قائم في الحديث عن سندات في رقبة الدولةلكن في المشروع المذكور مادة تنص على أنه تنفيذاً للمهام المنوطة به، يصدر الصندوق لصالح المودعين أوراقاً مالية او سندات تمثل حقوقاً… هذه المادة خطيرة إذا استقرّ الرأي على إصدار سندات على الدولة سدادها. فهذا دين عام الى أبد الآبدين، سواء صنف كذلك أم لا، في الوقت الذي تحاول فيه الدولة تنزيل أعباء الدين العام.
المصارف رافضة… رافضة… حتى قيام الساعة
في المقابل، تنص المادة نفسها الآنفة الذكر على أن تمويل الصندوق من موارد مختلفة بينها “مساهمة مالية من المصارف توازي نسبة من أرباحها”. وهذا ما ترفضه البنوك رفضاً قاطعاً. وهنا نأتي الى لبّ الموضوع: رفض المصارف الخطط المطروحة للأزمة. والتي تعتبرها الجمعية أزمة نظامية تبدأ أولاً من عند الدولة، وبالتالي على الأخيرة تحمّل الجزء الاكبر (الأكبر على الاطلاق) من الخسائر.
واللافت أن رفض المصارف مستمر على الرغم من الآتي:
– حماية صغار المودعين حتى 100 الف دولار لكلّ مودع. بما يوازي 20 مليار دولار، تدفع مناصفة بين مصرف لبنان والمصارف: 10 مليارات لكل منهما، على ان يكون النصف بالليرة. أي أن على المصارف 5 مليارات دولار فقط (بالدولار الفريش) وبالليرة ما قيمته 5 مليارات إضافية… على سنوات قد تمتد بين 5 و7 سنين عجاف!
– الباقي يحول في قسم كبير منه الى صندوق استرداد الودائع. اي ان 80% من المشكلة لم يعد على عاتق البنوك مباشرة. ورغم ذلك، تستمرّ المصارف بالاعتراض، علماً بأن عدداً قليلاً منها بدأ بالقبول نسبياً مع بعض الشروط والضمانات الاضافية المطلوبة. ما يعني أن الرفض والقبول يتعايشان تحت سقف واحد بانتظار جلاء الأمور أكثر.
– تستفيد المصارف من التوجه القائم لدى حاكم مصرف لبنان الى التوسع كثيرأ في ليلرة الودائع. فهي لم تعد مسؤولة إلا عن 5% من الودائع بالدولار، والباقي يسدّد بليرة يطبعها مصرف لبنان… وكفى الله المؤمنين شر القتال.
نجحت في إسقاط خطة دياب والحبل على الجرار
ما سبق من نقاش مستمرّ بين الجهات المعنية كانت سبقته جولات أيام حكومة حسان دياب، انتهت بإسقاط أرقام الخسائر تحت ضربات تحالف سياسي مصرفي ضمّ لجنة المال والموازنة برئاسة ابراهيم كنعان وعضوية كل الاطياف السياسية النافذة في تلك اللجنة، بالاضافة الى رياض سلامة وجمعية المصارف. إذاً، هناك سابقة يمكن ان تعتمد عليها المصارف لتجديد اسقاط ما لا يحلو لها، وهي تعرف أن رأيها مسموع جيداً بين السياسيين النافذين الفاسدين بعدما ساعدتهم على إخراج أموالهم بعد 17 تشرين 2019، وبعضها مستمرّ بترتيب ما يريد هؤلاء السياسيون مصرفياً.
وبما أن الدولة، بالزعماء المتسلّطين عليها، تمعن في إضاعة الوقت منذ 3 سنوات على الأقل من دون أي حسم لمخارج الأزمة، وبما ان رياض سلامة يدير الأزمة بالطريقة التي يراها مناسبة وبالتفويض من الزعماء إياهم… فإن المصارف تلعب اللعبة نفسها، وغير مستعجلة للقبول بأي حلول تفرض عليها. وذلك لأسباب كثيرة أبرزها الآتي:
اللعب على الوقت في مصلحة المصارف حتماً
– تذويب الودائع مستمر حتى بلغ 80 مليار دولار، بين ودائع كانت بالدولار وأخرى تحوّلت من الليرة الى الدولار بعد 17 تشرين، بالاضافة الى ودائع بالليرة ذابت مع هبوط العملة الوطنية 96%.
– يتفاقم تحصيل العمولات الباهظة على كل المعاملات المصرفية بلا اي استثناء تقريباً، حتى بلغت معدلات هي الأعلى في العالم على عدد من تلك المعاملات والتي تحصل منها عمولات تقبض بالدولار، بما يسمح بدفع رواتب وربما بونصات في حالات معينة فاقعة.
– هناك منصة صيرفة التي تستفيد منها المصارف أو يستفيد المصرفيون الواصلون لاستخدام تلك المنصة غير الشفافة والتنفيعية في جوانب منها، والتي تولّد أرباحاً تصل 30% في فروق الصرف مقارنة مع الأسعار في السوق الموازية.
– ثمة حديث متواتر عن امكان استغلال كل هذا الفراغ الرقابي لتهريب أصول من ملكيات البنوك الى ملكيات أصحابها. وعلى هذا الصعيد، تطالب مصادر معنية بضرورة تحرك لجنة الرقابة على المصارف، للتأكد من ذلك التهريب غير القانوني ولا الأخلاقي المؤدي الى زيادة حالة التعثر والإفلاس المنوي رميها في حضن المودعين في نهاية المطاف.
– تستمرّ المصارف في مقاومة الحلول ومن بينها الرسملة الجديدة. وهي التي ما زالت تحسب جزءاً كبيراً من رساميلها على 1500 ليرة، وتضغط حتى لا يشملها تعديل سعر الصرف الذي يعمل عليه حالياً رياض سلامة مع وزير المالية لإصدار تعميم بشأنه يسمح باستيفاء الدولار الجمركي على 15 ألف ليرة، مع إمكان جعل السحوبات من الودائع الدولارية على السعر عينه، واستثناء التطبيق على ميزانيات البنوك بحجة انتظار إعادة الهيكلة.
في الأثناء، تضغط المصارف لإقرار مشروع قانون الكابيتال كونترول، والذي بدأ درسه مجدداً في اللجان النيابية المشتركة، طمعاً بالحصول على حماية من دعاوى المودعين. وإذا حصلوا على ذلك، دون البنود الاخرى الضاغطة، فإن أصحاب المصارف يستطيعون العيش لسنوات طويلة قادمة على الوضع المريح والمربح القائم حالياً.
الخاطف يفضل دائماً التلويح بقتل الرهائن
على صعيد متصل، يتواصل ظهور جمعية المصارف ومصرفيين بالارتكاز على ان هناك هجمة على القطاع عموماً وموظفيه وعلى المودعين خصوصاً. وبالتالي فإن السردية تريد القول إن أي مسعى للمحاسبة الموصلة الى إفلاس أو تصفية وحدات مصرفية إنما هو ضد الموظفين والمودعين. ورأت مصادر في ذلك عبارة عن أخذ هؤلاء رهائن او شبه رهائن في المعركة الدائرة ليحفظ المصرفيون ملكياتهم وامتيازاتهم وأرباحهم ومنع أي محاسبة تصل الى ذقونهم. وهذا ما لا يريده سلامة وحماته من السياسيين لأن الموس قد تصل ذقون الجميع ان لم نقل رقابهم!