في كلّ مرّة يصل فيها الوضع السياسي الداخلي الى طريق مسدود، تطرح بعض الأحزاب فكرة “الفيديرالية” كحلّ جذري للأزمات التي تتراكم بفعل النظام الذي لا يجري تحديثه، بهدف سدّ الثغر التي أظهرتها السنوات الماضية مع تطبيق بعض بنود وثيقة الوفاق الوطني وليس كاملها. فيما يذهب البعض الآخر الى المطالبة بتطبيق الدستور بجميع بنوده، أي “اتفاق الطائف” بما فيها اللامركزية الإدارية أو إنشاء مجلس الشيوخ وإلغاء الطائفية السياسية من النصوص والنفوس وما الى ذلك. وفي لبنان، تعني الفيديرالية “التقسيم” بالنسبة للكثيرين، فيما تعني في الجمهوريات الـ 26 التي تُطبّقها اليوم في العالم، وتشمل نحو 40 % من سكّانه، “الاتحاد” أي على العكس تماماً من المفهوم السائد في لبنان. فهل يمكن أن تكون “الفيديرالية” الحلّ الفعلي لأزمات لبنان، لا سيما في المرحلة الراهنة؟ أم أنّها شرّ قد يؤدّي الى المزيد من الفوضى والشرذمة في بلد يضمّ 18 طائفة متعايشة مع بعضها بعضا رغم كلّ شيء؟!
مصدر ديبلوماسي مطّلع أكّد أنّ “الفيديرالية” أو “الاتحادية” هي شكل من أشكال الحكم، تكون السلطات فيه مقسّمة دستورياً بين حكومة مركزية (أو حكومة فيديرالية)، ووحدات حكومية أصغر (أي الولايات أو المقاطعات أو الأقاليم)، ويكون كلا المستويين المذكورين من الحكومة يعتمد أحدهما على الآخر ويتقاسمان السيادة في الدولة. أمّا الأقاليم والولايات فهي تعدّ وحدات دستورية لكلّ منها نظامها الأساسي، الذي يُحدّد سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية ويكون وضع الحكم الذاتي للأقاليم، أو الولايات منصوصاً عليه في دستور الدولة بحيث لا يمكن تغييره بقرار أحادي من الحكومة المركزية. وهذا النوع من الحكم منتشر في 26 دولة في العالم، وثمانية من بين أكبر دول العالم مساحة تُحكم بشكل فيديرالي، مثل الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وفي المنطقة العربية: جمهورية العراق والإمارات العربية المتحدة. وقد شكّل تطبيق النظام الفيديرالي في هذه الجمهوريات حلولاً لمشاكل عديدة عانت منها على مرّ عقود.
أمّا بالنسبة للبنان، فإنّ طرح الفيديرالية ليس جديداً، بل يعود الى بداية الحرب اللبنانية في السبعينات. غير أنّ الظروف اليوم تختلف عن تلك التي كانت سائدة آنذاك لتعود الى الواجهة. كذلك فإنّ لبنان الذي تشكّل مساحته الجغرافية، ما يوازي مساحة إقليم أو ولاية في الدول المذكورة أو سواها مثل البرازيل أو المكسيك أو الأرجنتين وألمانيا، فإنّ تطبيق “الفيديرالية” فيه كصيغة جديدة أو مستحدثة للنظام، على ما أضاف المصدر الديبلوماسي، صعب جدّاً نظراً الى صغر حجمه أولاً، ولأنّ المرحلة الراهنة ثانياً تجري فيها التسويات الإقليمية والدولية، ولم يعد الوقت يسمح لتغيير النظام برمّته، فيما يمكن تحديثه أو سدّ بعض الثغر التي تؤدّي أمام كل استحقاق الى طريق مسدود.
وبرأي المصدر نفسه، أنّه في لبنان عندما يطالب حزب “القوّات اللبنانية” بتطبيق الفيديرالية، على سبيل المثال، أو يريد “التيّار الوطني الحرّ” تطبيق “اللامركزية الإدارية الموسعة”، فإنّ الكثيرين يأخذون أو يفهمون هذه المطالب على أنّها نوع من المطالبة بالتقسيم، كون شريحة واسعة من المسيحيين تريد الابتعاد عن المسلمين والعيش في بيئة تُشبهها… غير أنّ الأمر لا يتوقّف هنا، إنّما من شأنه تغيير وجهة لبنان ككلّ “لبنان الرسالة” الذي تحدّث عنه البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني، أي بلد التعايش المسيحي- الإسلامي “النموذجي في منطقة الشرق الأوسط”. ولهذا فإنّ هذه المطالبات تجعله يفقد هذا الدور الفريد في المنطقة، لأنّ تطبيق الطروحات كيفما تشاء هذه الأحزاب، لن يعني “الاتحاد” إنّما التقسيم أو الفوضى أو الانعزال وضرب صيغة العيش المشترك الفريدة في نوعها.
ويجد المصدلر أنّ في لبنان أحزاب سياسية عديدة تتفق على معنى “الفيديرالية”، وإن كانت تختلف سياسياً. كما أنّ الوقت غير مناسب اليوم لخلق نظام جديد في لبنان، نعرف كيف نبدأه ربّما، لكن أحداً لا يضمن نتائجه، أو كيف ينتهي بعد تطبيقه. فالحرب تتسارع بين الدول الكبرى، ولا ينقص لبنان أن يذهب “فرق عملة”، أو أن تأتي تصفية الحسابات على حسابه، لا سيما في ظلّ الأزمة الإقتصادية والمالية والمعيشية غير المسبوقة التي يعيشها الشعب اللبناني، والتي تحتاج الى حلول سريعة، وليس الى حلول طويلة الأمد.
فإذا كانت الكتل النيابية، على ما تساءل المصدر الديبلوماسي عينه، لا يمكنها التحاور اليوم للتوافق على اسم رئيس الجمهورية المقبل، فكيف ستتمكّن من الجلوس الى الطاولة للبحث في مسألة تغيير النظام؟ وإذا كانت الفيديرالية هي اتحاد بين عدد من التقسيمات الفرعية تحت مظلة الجمهورية، مكوّنة حكومة مركزية، وتحتفظ ضمن الاتحاد بسلطات محلية منفصلة عن الحكومة المركزية، فإنّه لا بدّ من أن تكون المواضيع الخلافية منفصلة عن الحكم المركزي لكي تستطيع كلّ ولاية تحقيق برامجها بشكل منفضل. أمّا في لبنان، فإنّ طرح فكرة النظام الفيديرالي يهدف الى إيجاد حلول للخلافات السياسية الجذرية القائمة، وهي ثلاثة: السياسة الخارجية، الاستراتيجية الدفاعية والنظام المالي. وهذه الأمور الثلاثة هي واحدة لا يمكن تجزئتها، وترتبط مباشرة بالحكومة المركزية، ما يعني أنّ “الفيديرالية” لا تحلّ المشكلة هنا. ولهذا فإنّ الحلّ هو في تطبيق “اتفاق الطائف” والحرص على المسيحيين والمسلمين كما على وحدة البلد.
وأوضح المصدر أنّ الدستور اللبناني كونفيدرالي، فيما الفيديرالية (أو التقسيم) قد جرى تطبيقها خلال الحرب اللبنانية وفشلت، كما فشلت المحاصصات الطائفية والمذهبية. والفيديرالية تعني تقسيم لبنان الى دويلات طائفية، ما يُذكّر بالتقسيمات التي حصلت خلال الحرب وما عُرف آنذاك بـ “بيروت الشرقية” و”بيروت الغربية”، وكلّ لبناني سواء أكان مسيحياً أو مسلماً يمتلك الحسّ الوطني ينتقد تلك المرحلة، ولا يأمل في عودتها مرة أخرى. فهي لعبة خطرة كلّفت لبنان غالياً بين الطوائف والمذاهب، ولم تحمل في طيّاتها الحلّ المناسب لأزمات لبنان المتراكمة منذ عقود.