اللواء – المحامي د. أحمد مكداش
قبل أكثر من خمسة عشر عاماً وتحديداً في 13 تموز 2007 نشرت جريدة «اللواء» مقالاً لي بعنوان: «الفراغ والتعددية: لبنان إلى أين في ظل الأزمة الرئاسية؟». وقد تحدث هذا المقال عن حقيقة الأزمة في ذلك الوقت، وأنها لا تكمن في نصوص الدستور بقدر ما تتعلق بمواصفات الرئيس المقبل في حينها. بمعنى أن التوافق السياسي بين الأطراف كان كفيلاً بتجاوز الثغرات القانونية في الدستور الذي لا يتضمن أي حل لمشكلة الفراغ الرئاسي في الحالات التي يعجز فيها البرلمان عن تأمين النصاب القانوني لانعقاد المجلس وانتخاب الرئيس. وأن الأزمة ستزداد خطورة في حال إقدام رئيس الجمهورية على تشكيل حكومة ثانية في مقابل الحكومة الفاقدة للشرعية بنظر المعارضة التي كان مرشحها للرئاسة العماد ميشال عون، أو من خلال قيام الأكثرية بالتفرّد في انتخاب الرئيس دون الاعتداد بغالبية الثلثين لانعقاد المجلس. وفي الحالتين النتيجة ستكون واحدة: التعددية في الرئاسة والحكومة، أي كارثة بمثابة المدخل إلى الحرب الأهلية. والمشكلة الثانية التي كانت مطروحة في حال دخول البلاد في مرحلة الفراغ الرئاسي، هي في مدى شرعية الحكومة التي كانت قائمة في سنة 2007، والتي يفترض بأن تنتقل صلاحيات رئيس الجمهورية إليها بموجب المادة 62 من الدستور، وفي عجز هذه الحكومة عن الحراك السياسي دون تعريض الوفاق الوطني والسلم الأهلي للخطر بسبب الطعن بشرعيتها من قبل قوى المعارضة. ولذلك كانت وجهة النظر في هذا المقال أن حالة الفراغ الرئاسي والشلل الحكومي تبقى أفضل بكثير من حالة التعددية في الرئاسة والحكومة، ومن تهديد وحدة الوطن. وهكذا الفراغ يكون نعمةً وجنّةً أحياناً.
وما حصل بعد ذلك هو الدخول في الفراغ الرئاسي، وتوالياً وقوع أحداث السابع من أيار 2008، التي أدّت في نهاية المطاف إلى اجتماع الفرقاء اللبنانيين في العاصمة القطرية لإنهاء الأزمة السياسية القائمة، وبالنتيجة تم التوقيع على اتفاق الدوحة الذي مهّد لانتخاب المرشّح التوافقي قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية اللبنانية. واليوم تعود بنا الذاكرة إلى هذا الفراغ الرئاسي الملطّخ بالدم، وإلى فراغ رئاسي آخر أعقب انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان الذي ختم عهده بوصف المعادلة الثلاثية «جيش وشعب ومقاومة» بأنها معادلة خشبيّة. وهو ما دفع «حزب الله» إلى تعطيل جلسات انتخاب الرئيس بالتحالف مع «التيار الوطني الحر» وقوى الثامن من آذار، وفرض الشغور في سدة الرئاسة لأكثر من سنتين من أجل إيصال العماد ميشال عون إلى موقع الرئاسة الأولى بالرغم من انتمائه إلى معسكر المعارضة والأقليّة النيابية. وبالفعل تم انتخاب مرشح إتفاق مار مخايل رئيساً للجمهورية بعد إعلان رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، مرشّح 14 آذار السابق لرئاسة الجمهورية، عن دعمه وتأييده لوصول العماد عون مرشّح 8 آذار إلى قصر بعبدا، فكان الاحتفال الكارثي في اتفاق معراب «البوابة الحقيقية للدخول إلى العهد الجهنّمي في لبنان»!
اليوم دخل لبنان إلى فراغ رئاسي جديد على وقع الإنهيارات العظيمة للعهد البرتقالي-الأسود، والانتصارات المزعومة في الترسيم أو التفريط البحري، وبعد توقيع رئيس الجمهورية السابق ميشال عون على اتفاق الترسيم مع العدو الإسرائيلي، وما يحمله ذلك من علامات التطبيع السياسي مع إسرائيل، في الوقت الذي لم يتم فيه التصويت على الإتفاق في مجلس الوزراء، ولا جرى عرضه على مجلس النواب، وذلك حتى لا تعتبر موافقة المجلسين تطبيعاً سياسياً، وكي لا تخرج المسألة عن طابعها التقني الذي كان يفترض أن يقوم رئيس الوفد العسكري المفاوض بالتوقيع على الصيغة النهائية مع الجانب الإسرائيلي. والمفارقة في هذا الفراغ الرئاسي المعتاد والمستجد أنه يأتي بعد هذا العهد الجهنّمي ليكون بلسماً على قلوب اللبنانيين المثخنة بالجراح، ولتكون العودة إلى الفراغ الرئاسي في هذه المرة بمثابة الجنّة والخلاص الذي ينتظره اللبنانيون بغالبيتهم منذ ثورة 17 تشرين الأول 2019، وبشكل أكبر بعد جريمة تفجير المرفأ الإرهابية واغتيال قلب العاصمة بيروت في الرابع من آب 2020، وقتل أحلام اللبنانيين في هذا العهد المفعم بالكيدية والفراغ والإنقلاب على الدستور.