المصدر: احوال ميديا – نبيل المقدّم
أيامٌ سوداء لم يسبق لها مثيل يعيشها اللبنانيون هذه الأيام؛ بعد أن بلغ سعر صرف الدولار مستويات قياسيّة جارفاً بطريقه مدّخراتهم ومداخيلهم. تاركاً لهم شظف العيش والمستقبل المجهول.
ما هي أسباب هذا التدهور المريع وماذا يخبئ المستقبل؟
سياسات خاطئة
لا يستغرب الخبير المصرفي سليم مهنا التدهور الاقتصاديّ الحاصل اليوم على الساحة اللبنانية، ويقول في حديث لـ “أحوال”: كان هناك توقع من معظم الخبراء الاقتصاديين أننا سنصل إلى يوم يتراجع فيه الوضع الاقتصادي والمالي في لبنان، وذلك بسبب السياسة الاقتصادية التي اتُبعت منذ ايام الرئيس رفيق الحريري، والتي قامت على الاستدانة العالية وإهمال القطاعات المنتجة بخاصة قطاعي الزراعة والصناعة واقتصار التركيز على قطاع الخدمات.
ويضيف مهنا قائلاً: “كان من نتائج هذه السياسة أن أدّت إلى خلل بنيويّ في ميزان التجارة وميزان المدفوعات؛ بحيث بات الدولار حاجة لا غنى عنها في يوميّات التجار والمستوردين، بسبب أن الاكثرية الساحقة من استهلاكنا المحليّ يتم استيرادها من الخارج، وبالعملة الصعبة.
استنزاف الاحتياط عمداً
يحمّل مهنا مسؤولية تدهور الوضع إلى السياسة المالية والاقتصادية التي انتهجتها الطبقة السياسية في لبنان؛ ويوضح: “لقد تعمّدت الحكومات المتعاقبة استنزاف احتياط العملات الأجنبيّة من خلال تثبيت سعر الصرف. فيما كان الجميع يعلم جيداً أن الحفاظ على سعر الصرف من خلال بيع الدولار بشكل يوميّ هو استنزاف لاحتياطي العملات الأجنبية. والمصيبة الكبرى أن ما كان يتم صرفهُ على تثبيت سعر النقد الوطني لم يكن من أموال البنك المركزي، بل كان من اموال المودعين. حيث اندفعت المصارف لتوظيف أموالها بفوائد عالية لدى البنك المركزي طمعاً بجنى أرباح سهلة وسريعة. وقد تم استخدام قسم من هذه الأموال في السوق لتغطية الفجوة بين العرض والطلب. أما القسم الآخر، فكان يتم إقراضه إلى الدولة اللبنانية لتغطية جزء من مدفوعاتها لقاء فوائد عالية. ونتيجة ذلك وصلنا في نهاية المطاف إلى وقت تبخّرت فيه أموال المودعين نتيجة تلك السياسة من جهة، ولم يعُد لدى المصرف المركزي احتياطيّ يملكه من جهة ثانية”.
شحن الأموال من الخارج يلجم سعر الصرف
مهنا يشير أيضاً إلى التعميم “151” وما ألحقه من غبن بأموال المودعين: “لا سيّما مع الفرق الشاسع بين سعر المنصة الإلكترونية وهو 3900 ليرة وسعر الصرف في السوق الموازية. أما الحلّ لهذه المعضلة، فيرى أنه في إعادة السماح للمصارف بإجراء تحويلات إلى الخارج، ومن ثم إعادة استقدام هذه التحويلات نقداً عبر شركات شحن الأموال وإعطائها للمودعين، ما يؤدي إلى زيادة عرض الدولار وانخفاض سعر الصرف.
لا يجد “مهنا” المصارف بشكل عام شريكة في التدهور الحاصل ويقول: “بعض المصارف رفضت إقراض الدولة فحافظت على وضعها سليماً. فيما هناك مصارف أخرى انساقت وراء سياسة الربح السريع والفوائد المرتفعة، واليوم هي تعاني من صعوبات جمة نتيجة عجز الدولة عن دفع ما يترتب عليها من ديون للمصارف لا سيّما السندات السياديّة او ما يُعرف باليورو بوند.
ضغوط من أجل استمرار الفساد
مهنا تطرّق أيضاً إلى قرار جمعية المصارف عام 2014 بوقف إقراض الدولة واشتراط الجمعية حينذاك أن تقوم الدولة بإصلاحات جذرية في بنيتها الإدارية. فكانت ردة فعل الطبقة السياسية هي أن أجبرت هذه المصارف على الاستمرار في سياسة إقراض الدولة بعد أن مارست عليها ضغوطاً شتى.
وعن الفرص المُتاحة للخروج من هذا النفق، يبدي “مهنا” قلقه على المستقبل ويقول: “نحن ذاهبون إلى صعوبات هائلة إذا استمرّ المنحى الحالي في التعاطي، بحيث ستجد الحكومات التي ستأتي لاحقاً نفسها أمام جملة من التحديات المصيرية قد تكون عاجزة عن مواجهتها. ويأمل الخبير الاقتصادي أن يكون تشكيل الحكومة هو خشبة الخلاص منعاً لانزلاق لبنان نحو النموذج الفنزويليّ.
الموضوع سياسيّ
من جهة أخرى، يرى الخبير الاقتصادي والمالي الدكتور بشير المر أن ما يجري اليوم من تطورات على الساحة المالية في لبنان ليس له طابع نقدي أو اقتصاديّ، أو أن يكون له علاقة بسوق العرض والطلب على الدولار، وذلك لأسباب عدة منها عدم وجود حجم استيراد كبير من الخارج في المرحلة الحالية. كما أن التحويلات المالية من اللبنانيين في الخارج إلى أقربائهم هي بحجم كافٍ. أمّا أسباب ارتفاع الدولار على هذا النحو، فيعزوها المر إلى أسباب سياسية منها ما يتعلق بالتجاذبات السياسية الداخلية، ومنها له علاقة بإبعاد الصراع الجيوسياسي على المنطقة.
المصارف متورّطة
ويلفت “المر” إلى أنّ المصارف دخلت في اللعبة لسببين:
الأول، أنها أرغمت على ذلك من الخارج بعد تهديدها بجملة عقوبات.
الثاني، هو الطمع بالمزيد من الأرباح، بعد أن قامت بتحويل الإيداعات لديها إلى الخارج واستثمارها في فوائد عالية؛ الأمر الذي أدّى إلى إفراغ المصارف من السيولة.
ويقول المر: “قامت المصارف بوضع يدها على أموال المودعين؛ كما قام الخارج بوضع يده على أموال المساهمين مانعاً التحويلات إلى لبنان. فيما قبل ذلك لم يكن الوضع سليماً كما يتصوّر البعض”. ويتابع، المصارف كانت في الفترة الأخيرة تقوم بتوزيع أنصبة الأرباح على المساهمين من أموال المودعين؛ إلاّ أنّه بعد أن وجدت نفسها تعاني نقصاً في السيولة، وذلك نتيجة عجز الدولة عن تسديد ديونها للمصارف، والتي راحت تستعيض عنها بسندات الخزينة، حدث تراكماً في سندات الخزينة لدى موجودات المصارف.
ويضيف، بسبب النقص في السيولة حاولت المصارف تغطيته بتسجيل أرباح وهمية، ونتيجة لهذه السياسة لم تتبخر فقط أموال المودعين اللبنانيين بل تبخرت معها أيضاً أموال المودعين العرب، وخاصة السوريين والعراقيين واليمنيين.
ويتابع، “بعد ذلك أتت تعليمات من الخارج للمصارف اللبنانية بوقف العمليات المصرفية بشكل شبه كامل، فالتزمت المصارف تحت ضغط التهديد. وقد تم استغلال المصارف لأهداف سياسية لها علاقة بموقف لبنان من ترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة، وبموقفه أيضاً من توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ومن مسألة بقاء النازحين السوريين في لبنان”.
شبكة المصارف والمنصّات
بعد أن استنفذ الهدف من قطع الموارد غايته من دون أن يؤدي إلى النتيجة المرجوة، انتقلت الضغوط الخارجية بهدف إحداث خرق سياسي إلى مرحلة جديدة، وهي التلاعب بسعر الصرف من أجل دفع المواطن إلى القيام بردّة فعل تخدم الهدف الذي قامت من اجله الضغوط. في هذا السياق، يلفت المرّ إلى وجود منصات خارجية تقوم بعملية التلاعب. “من الملاحظ أن ارتفاع الصرف أكثر ما يتم في ساعات الليل وساعات بعض الظهر، وليس خلال النهار، وهو الوقت الذي تتم فيه عمليات التبادل التجاري والعرض والطلب في سوق العملة.”
المر يكشف أن عدداً من المصارف قام بشراء كميات صغيرة من الدولار من السوق السوداء وبأسعار عالية، وذلك بهدف المشاركة في عمليات المضاربة وإلهاب السوق اكثر، وهذا مؤشر إلى أن الدولار ذاهب إلى مزيد من الارتفاع. ويلفت أيضاً إلى عدم وجود عرض للدولار في السوق، الأمر الذي ينعكس سلباً على معيشة المواطنين وعلى المؤسسات التجارية، والتي باتت غير قادرة على القيام بعملها التجاري اليومي.
صمت مريب
يستغرب “المر” أداء وزارة الاقتصاد في هذا المشهد ويقول: كيف لوزير الاقتصاد أن يصدر تعميماً يطلب فيه تسعير المواد الغذائية على سعر الصرف 3900 ليرة؟ مما يعني أن القطاع الرسمي متقبّل فكرة ارتفاع الدولار بل هو مشارك فيها. كما يستغرب صمت معظم الجهات الرسمية، وفي طليعتها القضاء والمجلس النيابي ولجنة الرقابة على المصارف. وهو يرى أن الأزمة الاقتصادية مستمرة طالما الأزمة السياسية مستمرة في لبنان وفي المنطقة. “فالوضع الاقتصادي ليس على درجة من التدهور تسمح بارتفاع الدولار إلى هذه المستويات القياسية؛ فأموال اللبنانيين في الخارج كافية لاستنهاض الوضع الاقتصادي”.