القرار المفاجئ بعودة الوزراء الشيعة الى حضور جلسات مجلس الوزراء والمحصورة بدرس مشروع الموازنة وخطة التعافي الاقتصادي، حملَ كثيراً من التأويل بين من ربَط الخطوة باقتراب المفاوضات حول الملف النووي الايراني من امتاره الاخيرة، وبين اصرار «الثنائي الشيعي» على نفي اي تأثير خارجي ووضع القرار في سياق الازمة المعيشية المستفحلة.
في الواقع ثمة مزيج بين التفسيرين فالاجواء التي تحوط بالمفاوضات الدائرة في فيينا تلحظ تبدلاً واضحاً ولهجة مختلفة ومؤشرات لتصاعد الدخان الابيض في وقت ليس ببعيد.
اضف الى ذلك ان المطلب الدولي من لبنان ارتكز في المرحلة الاخيرة على ضرورة عودة الحكومة الى العمل لإنجاز التفاهمات المطلوبة مع صندوق النقد الدولي وفي طليعتها اقرار موازنة تحاكي الاصلاحات المطلوبة، اضافة الى ضرورة تأمين الغطاء المطلوب لإنجاز الترسيم البحري. لكن لا بد من الاقرار بوجود اسباب داخلية دفعت في اتجاه إنضاج قرار العودة الى جلسات مجلس الوزراء. فالفريق الشيعي الذي حمل لوحده تبعات تعطّل هذه الجلسات، في مقابل مطالبة بقية القوى والاطراف خصوماً كانوا او حتى حلفاء بضرورة العودة الفورية الى جلسات الحكومة لمعالجة اوضاع الناس وسط انهيار دراماتيكي لسعر صرف الليرة اللبنانية، لمس في وضوح وقوفه وحيداً في الساحة في وقت بَدت «البيئات» اللبنانية قد تعبت، بما فيها البيئة الشيعية.ad
اضف الى ذلك ان الحلول بدت مقفلة امام ازاحة القاضي طارق البيطار، وهو ما يعني استحالة الاستمرار قدماً في وضع يؤدي الى استنزاف الرصيد السياسي والشعبي للثنائي الشيعي. وفي الاسباب الداخلية ايضاً، اهداء رئيس الجمهورية «جائزة ترضية»، بعد فشل الدعوة الى طاولة حوار في قصر بعبدا. طبعاً شكّل هذا الفشل نكسة معنوية اضافية من خسائر العهد. وطالما ان الدعوة جاءت في الاساس لأن مجلس الوزراء معطل، فإن العودة الى هذه الجلسات تمنح رئيس الجمهورية مخرجاً معقولاً للفشل الذي اصاب الدعوة الى انعقاد طاولة الحوار. وخلال اللقاء الاخير الذي جمع رئيس مجلس النواب نبيه بري برئيس الحكومة نجيب ميقاتي تم التطرق الى موضوع عودة جلسات مجلس الوزراء ولو في اطار محدد. وتبع ذلك تواصل بين بري و»حزب الله» الى ان دقت اللحظة الاقليمية الملائمة. لكن هذه العودة لا تعني الافراط في التفاؤل، ففي الخارج استعدادات لإنجاز تسويات في الساحات المشتعلة والتي ستطاول لبنان بعد انجاز الملف النووي، وفي الداخل خطوط حماس ونزاعات عنيفة عشية الاستحقاقين النيابي والرئاسي وسط تحولات عميقة شهدها الشارع اللبناني بمختلف «زواريبه» منذ اندلاع انتفاضة 17 تشرين.
على المستوى الخارجي جاءت زيارة وزير الاشغال علي حمية الى فرنسا بدعوة من العاصمة الفرنسية لافتة في هذه المرحلة بالذات.
وبخلاف العناوين التي اعطيت لهذه الزيارة، الا أن المهمة الفعلية تتعلق بمرفأ بيروت وتلزيمه. الواضح ان فرنسا مهتمة جدا بهذا المرفق الحيوي اللبناني وبدا ذلك بوضوح مع ابداء الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون اهتمامه بإعادة اعمار مرفأ بيروت اكثر من مرة، وكان قد اصطحب معه في الوفد المرافق له الى بيروت رئيس شركة فرنسية ضخمة مهتمة بالموضوع. وقد تكون العاصمة الفرنسية تأمل من حمية، وهو الذي درس في فرنسا، ان يساهم من خلال علاقاته مع «حزب الله» في تأمين إنهاء التلزيمات المطلوبة في وقت قريب. لكن الصورة حتى الآن لا تشي بنتائج قريبة فالملف كبير وله ابعاده الواسعة.
حتى في ملف الموازنة، هنالك عدد من العقد التي ما تزال في حاجة للتفاهم حولها كمثل سعر الدولار الجمركي والرقم الذي يجب تحديده وسط دراسات غير كافية لتأثيره على الاسواق اللبنانية والحركة الاقتصادية المتوقفة اصلاً.
اما ملف ترسيم الحدود البحرية فإنّ التأجيل المستمر وفي اللحظات الاخيرة لقدوم رئيس الوفد الاميركي المفاوض يرسم علامات استفهام، خصوصا أن لبنان كان قد تقدم بتصوره والذي نال موافقة الفريق الاميركي الذي وصفه بالتصور الواقعي والعملي.
اما في الملفات الداخلية، فإن مستوى النزاع الجاد يؤشر ايضا الى ان العودة الى جلسات مجلس الوزراء لن تعني التخفيف من الواقع السياسي المحتقن، لا بل على العكس. فالبرودة التي رافقت موقف رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل من قرار عودة الفريق الشيعي رغم انه كان من اشد المطالبين باستئناف جلسات مجلس الوزراء، عززت الانطباع بأنه تلقى خسارة في طريقة حصول هذه العودة. البعض يعتقد ان باسيل ربما كان يفضّل حصول العودة من خلال صفقة جديدة على غرار الصفقة التي سقطت، تمنحه نقاطاً انتخابية هو بأمسّ الحاجة اليها. فملف التعيينات لن يُفتح على طاولة مجلس الوزراء وفق ما يعنيه بيان العودة للثنائي الشيعي وبتواطؤ ربما الرئيس نجيب ميقاتي سيحصل ربما فتح ملفات تتعلق بالكهرباء ومسائل حياتية، لكن بالتأكيد لن يحصل بحث في التعيينات. وخلال الايام الماضية نفذ باسيل انعطافة جادة في سلوكه السياسي، وهو ما يشكل مفارقة للخطاب الصدامي الذي اعتاد عليه.
فبعد ان طلبَ من «حزب الله» مصالحته مع بري والوزير السابق سليمان فرنجية، وجّه كلاماً معسولاً الى فرنجية والى رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع. وفي اتجاه بري وجّه ايضا اشارات ايجابية عند استقباله وفدا من اهالي الموقوفين في ملف انفجار مرفأ بيروت ومتحدثاً عن المظلومية وعن النائب علي حسن خليل. لكن عمق وحِدّة النزاع اللذين كانا قائمين لا ينبئان بتجاوب قريب مع باسيل الذي اثبت لخصومه انه مدرك تماماً للضعف الذي اصاب موقعه، وانه في حاجة الى خطوة انقاذية خصوصا على مستوى الانتخابات النيابية. حتى الآن لم يدخل «حزب الله» بعد في التفاصيل الانتخابية مع حركة «أمل». وهنا المشكلة، فثمة دوائر عدة مشتركة بين «حزب الله» وحركة «امل» و»التيار الوطني الحر» وليس واضحاً بعد السبيل الذي سيجري اتخاذه وسط اصرار «حزب الله» على مد حليفه «التيار الوطني الحر» بالعدد الاقصى من المقاعد التي ستعوضه تراجع شعبيته في الشارع المسيحي.
وفي الوقت نفسه ما يزال بري ينتظر ايضا قرار الرئيس سعد الحريري لحسم الوضع في الشارع السني. وخلال الايام الماضية حصل اتصال بين بري والحريري حيث اكد الاخير التزامه العودة الى لبنان مطلع شباط، وسيكون له لقاء طويل معه للبحث في القرار الذي سيرسو عليه من مختلف جوانبه.
ولا شك في أن اتخاذ الحريري موقفه النهائي سيساهم في تظهير الصورة اكثر لدى بري وايضا لدى ميقاتي ومصير الساحة السنية، وربما إعادة رسم تحالفات جديدة.