ثلاثة عناوين تتصدّر المشهد اللبناني والذي لا يمكن فصله عن ما يجري في سوريا. أولها، مواكبة مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار وتفعيل عمل لجنة المراقبة، وسط ضمانات دولية وأميركية بالتحديد، وصلت إلى لبنان، لدفع إسرائيل إلى الالتزام بالاتفاق وعدم خرقه. ثانيها، إعادة تحريك ملف الانتخابات الرئاسية وإعادة تشكيل السلطة، بفعالية، وسط محاولات لبنانية لإنجاز الاستحقاق في جلسة 9 كانون الثاني، في مقابل بروز مفاجأة على لسان مسعد بولس، وهو مستشار الرئيس الأميركي المنتخب لشؤون الشرق الأوسط، الذي قال في تصريحين متتاليين، إنه يمكن للبنانيين تأجيل عملية الانتخاب لشهرين. وهو يقصد لما بعد تولي ترامب السلطة وتشكيل فريق عمله كاملاً. أما الثالث، فهو التطورات اللبنانية على الإيقاع الإقليمي وخصوصاً ما يجري في سوريا ودور إيران.
بالنسبة إلى العنوان الأول، فإن تحديات كبيرة تنتظر لبنان الرسمي ولجنة مراقبة آليات تطبيق القرار 1701، والتي ستبدأ عملها في وضع خطة تفصيلية لكيفية انتشار الجيش اللبناني في الجنوب، ومعالجة الخروقات الإسرائيلية. إلى جانب أهداف إسرائيل في إظهار يدها العليا في هذا الاتفاق، هناك أهداف أخرى تريد تحقيقها من خلال مراكمة عناصر الضغط على لجنة المراقبة والجيش اللبناني، لإخراج حزب الله من جنوب نهر الليطاني. يترافق ذلك مع تصريحات أميركية واضحة حول ضرورة تطبيق الاتفاق بحذافيره، وأن يتولى الجيش مهمة إخراج حزب الله من تلك المناطق، وسط ضغوط أميركية تتوضح أكثر على لسان مسؤولين في الإدارة الحالية أو في فريق عمل ترامب، بأن مهمة الجيش هي التأكد بنفسه من إخراج الأسلحة وإفراغ المخازن والمواقع، وصولاً إلى كلام مسعد بولس عن شمول الاتفاق لشمال نهر الليطاني وسحب الأسلحة الخارجة عن الدولة على كل الأراضي اللبنانية. وذلك يعطي إشارة إلى المسار الذي ستسلكه إدارة ترامب تجاه لبنان.
بانتظار هذه الترتيبات والوقائع، يتقدّم الاستحقاق الرئاسي، وهو عنوان لا ينفصل عن العنوان الأول. ولذلك هناك إصرار لدى فريق ترامب على تأجيل إنجاز الانتخابات الرئاسية إلى ما بعد تسلّمه السلطة. وتصل إشارات واضحة إلى اللبنانيين بأن لا يتم تمرير الانتخابات الرئاسية قبل العشرين من كانون الثاني، لأن هناك وجهة نظر في واشنطن تستند إلى تجربة العام 2016، عندما تم انتخاب ميشال عون قبل 8 أيام من انتخاب ترامب. من الواضح أن السياق المراد فرضه سياسياً ورئاسياً في لبنان، يسعى إلى تكريس واقع جديد، يتماهى مع رؤية ترامب للبنان والمنطقة، وهو الذي كان قد تحدث سابقاً عن إحلال السلام. على الأرجح، ما يريده ترامب هو محاولة فرض تسوية سياسية تتماهى مع رؤيته للمنطقة، وهو المقصود بكلام بولس عن “عدم الانتخاب عشوائياً”، بغض النظر عن لعبة الأسماء التي بدأ اللبنانيون بالتداول بها والغرق فيما بينها.
في العنوان الثالث لا بد من العودة إلى الحرب الإسرائيلية وآلياتها، فهدفها كان تغيير الوقائع عسكرياً، بهدف فرض معادلات جديدة سياسياً، ومن ضمن شروطها تكريس استقرار طويل الأمد يوفر لإسرائيل الأمن، وهو ما ينطبق على لبنان وسوريا معاً وفق الاستراتيجية الأميركية. وسط اعتماد سياسة إنهاك لكل هذه الدول التي تعتبر منضوية تحت “النفوذ الإيراني”، وجعلها في موقع غير قادر على الرفض. كما أن الحروب التي تؤدي إلى دمار كبير وانعدام القدرة على إعادة الإعمار هدفها ربط هذه المساعدات أو الاستثمارات في إطار السياق السياسي الجديد الذي يُراد فرضه. فطوال الحرب وعملياتها التي أراد الإسرائيليون فيها تكريس معادلة ضرب حزب الله فقط، لتكريس الشرخ بين الحزب والقوى اللبنانية الأخرى، لا ينفصل هذا عن محاولة فرض وقائع سياسية جديدة بناء على ما أسماه الإسرائيليون “إضعاف” حزب الله. وهو ما يُطلق عليه في المنطقة مصطلح “إضعاف النفوذ الإيراني”. الذي ستشهد بموجبه الساحات اللبنانية، السورية، والعراقية الكثير من التجاذبات وشد الحبال والتوترات، بانتظار ما سينتج عن مسار علاقة ترامب بالإيرانيين، وإذا كانت ستتجه إلى صفقة أم صدام.
لا تزال إيران تبدي استعدادها للوصول إلى تفاهم مع أميركا، وفق وجهات نظر داخل إيران تميل إلى ضرورة التفاهم مع ترامب، وتحويل فترة ولايته إلى فرصة لإبرام صفقة، فيما قفز الملف السوري إلى الواجهة بكل تطوراته وأحداثه، من سيطرة المعارضة على حلب، وفتح معارك حماه، ما أظهر انهياراً كبيراً في بنية النظام السوري وجيشه، ما يجعل إيران تستشعر خطراً جيوسياسياً، يمكن أن يقطع طريقها إلى البحر المتوسط. وقد جاء إعلان وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، عبر صحيفة “العربي الجديد”، أن طهران ستتدخل بناء على طلب دمشق. هو مؤشر على رغبة إيران بمطالبة علنية ورسمية من الأسد للتدخل، علماًَ أن الإيرانيين يحاولون تحفيز النظام على تنفيذ عملية عسكرية مضادة، لفرض واقع تفاوضي بين سوريا وتركيا. لا بد للبنان أن يراقب ويتأثر بمجريات الوقائع السورية. ففي حال تمكنت المعارضة من بسط سيطرتها الكاملة على حلب، وتوفير كل الموارد والاحتياجات الأساسية، فهذا يعني فرض أمر واقع سياسي جديد، يتوزع فيه النفوذ الفعلي بين روسيا وتركيا، لتبقى إيران أمام تحدي الحفاظ على نفوذها. أما في حال تمكنت المعارضة من السيطرة على حماه، والانتقال بعدها إلى فتح معركة حمص، فهو ما سيشكل تهديداً كبيراً لنفوذ إيران. وهو ما سيكون له انعكاسات كثيرة على الوضع في لبنان.
لا شك أن المسارين السياسي والعسكري في سوريا، وما يعلنه المسؤولون الأتراك بالإضافة إلى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، حول استعصاء الحلّ السياسي ورفض دمشق تقديم أي تنازلات أو مقاربات واقعية، هو الذي أدى إلى انفجار الوضع العسكري، والمطالبة بإنتاج حلّ سياسي، ينطوي على مشروع تتقاطع فيه توازنات إقليمية ودولية، ستشكل ضغوطاً كبيرة على النظام لإجباره على إبرام تسوية وفق الشروط المطلوبة دولياً. وبحال لم يستجب، فإن هذه المعارك ستتواصل وتتوسع مع ما سيتخللها من فرز لمناطق النفوذ، ومع إيقاظ الكثير من المخاوف حول الفرز الديمغرافي أو عمليات التهجير العرقي. لبنان أيضاً، سيكون في الميزان نفسه سياسياً، إما أن تخضع القوى المختلفة فيه إلى تسويات مبنية على تنازلات تتلاءم مع الضغوط الخارجية، أو أن الاستعصاء سيستمر ويراكم الخسائر والانهيارات، ويدفع القوى المنقسمة على بعضها إلى البحث عن محاولات فرض أمر واقع في مناطق نفوذها.
في هذا السياق يبرز تحول جديد كشف عنه زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني، والذي أبدى الاستعداد لحلّ الجبهة، لتمكين الدمج الكامل للهياكل المدنية والعسكرية. علماً أنها ليست المرة الأولى التي يعلن فيها مثل هذا الإجراء. ولكن مثل هذا التنازل الجوهري مطلوب أيضاً من الأسد نفسه، وهو مطلوب من حزب الله في لبنان للتحول إلى حزب سياسي والتخلي عن السلاح. منير الربيع – المدن