توزع الاهتمام في لبنان بالأمس بين مشهدين: ماساة طرابلس وضياع أبنائها في البحر، واجتماع دار الفتوى لمحاولة جمع “ابنائها”، تحسبا لضياع ما تبقى من علاقات لبنان مع العالم العربي واتفاق الطائف ومحاولة البحث عن فرصة لاستعادة الدور .
في المشهد الاول تبدو طرابلس في ماساتها وكأنها تختصر لبنان، برمزيتها. طرابلس بما تمثّله من إهمال وما تعيشه من فقر وبؤس وتفلت أمني وانهيار مؤسساتي، له ما يلاقيه في كل البلد. طرابلس التي يدفع اليأس ابناءها إلى المغامرة بحياتهم وحياة أطفالهم هربا من موت بطيء، هو نتاج تداعيات تفكك الدولة وتحلل مؤسساتها، وغياب أي خطة نهوض اقتصادي توحي للناس بامكانية الخروج من ازمتهم الإجتماعية غير المسبوقة.
المشهد الثاني، ضمّ 24 نائباً سنيّا من أصل 27 في دار الفتوى. اجتمعوا بحثاً عن رؤية سياسية، لا تزال ضائعة. فهي وإن تلاقت على عناوين عامة، تختلف على آلية التطبيق والتنفيذ، أو ربما تبدو عاجزة عن الإستمرارية خارج سياق “البروتوكول”. غياب الرؤية والمشروع يفقد الحركة أي وزن، ولا يعطي للموقف الثقل المعنوي المنشود.
يعكس المشهدان واقع البلاد وخياراتها التي تزداد ضيقا. الأكيد أنهما ليسا وليدي اللحظة المثقلة بالدلالات، بل ناتجين عن أمد بعيد من التهميش الذي يؤدي إلى اليأس؛ فيخرج الموهوبون بالإستثمار بالمآسي، إما للكسب المادي على طريقة المافيات، أو تنفيذاً لمشروع ذات بعد أعمق وأخطر يقود إلى هجرات جماعية وإغراق البحر الأبيض المتوسط بالجثث، ربطاً بمشروع للتفكيك الإجتماعي بعد التفكيك الوطني. والأخطر هو جني ثمار التهميش بمفعول رجعي، إما لابتزاز الغرب، وتخويفه بالهجرات الجماعية وباللاجئين، واما لاستكمال عملية انهيار البنيان الإجتماعي على قاعدة إعادة تركيب وترتيب هذه البقعة من نقطة الصفر، وهو يحتاج إلى تطهير شعبي ومؤسساتي.
مجرد أرقام
لا يمكن لذلك أن يحصل لولا حالة انعدام الوزن. إذ هناك من يعتبر أن أبناء الشمال هم مجرد أرقام، بلا أي تأثير سياسي أو فعالية إجتماعية وشعبية أو مناطقية حتى. وهو انطباع تعمم، وينسحب على هذه المناطق منذ سنوات، من أيام نشاط المجموعات المتطرفة، إلى تهريب عناصر للإلتحاق بتنظيم داعش في العراق، وصولاً إلى انفجار التليل في عكار، وبعده غرق المركب الأول قبالة طرابلس قبل الإنتخابات النيابية. ومن يفقد وزنه على الأرض، يفقد توازنه، ولا يعود قادراً على التأثير في الميزان لا السياسي والإجتماعي ولا الإقتصادي ولا حتّى كيد عاملة.
وليس مشهد طرابلس خصوصاً ولبنان عموماً، منفصلاً عن مشهد سوريا التي أشبعت سمك بحار العالم جثثاً، فقدان الوزن والتقرحات بدأت من هناك، حيث لم تنفع لقاءات الأصدقاء وبيانات القمم.
في حالات الإنهيار، تلجأ الناس إلى الوهم. وفي غياب المشروع أو السند الذي يمكن للمرء الإتكاء عليه يلجأ إلى الماء متكأً، فلا يرتحل إلى غير الغرق. هؤلاء لا دار لهم، لا سياسة تحميهم، ولا مرجع يقيهم مصائر التهجير ومصائبه.
مهمة سياسية
حتى لقاء الدار انطوى على مشهدين، ممثلو الناس على اختلاف تنوعاتهم، يتحلّقون في جمعة بروتوكولية ومواقف التجامل واللياقات. لينشق بعدها بعض منهم للبحث عن أفق سياسي تأخر اكتشافه، أو يتعثر مساره.
غلب طابع العموميات على اجتماع دار الفتوى. فالمواقف تحتاج إلى تأطير وتنظيم، وهذه مهمة سياسية اولا، تأتي بالصروح الدينية إليها.
وعلى ضفة أخرى، يأتي الإجتماع في دارة السفير السعودي في إطار التركيز على عنوان سياسي واضح، لكنه يحتاج إلى نظم داخلية تتفاعل معه، لان استعادة السنّة لدورهم وان كانت ، ربما، تبدأ باللقاءات الا أنها تبقى قاصرة عن الإنجاز أن لم يواكبها رؤية وخطة ومحطات ومهل. فاعادة التوازن السياسي لا يمكن أن يتحقق بلقاء مقتصر على مجموعة نواب تتوزعهم أهواء وحسابات خارج أي اطار تنظيمي، أو انطلاقاً من حسابات طائفية أو مناطقية؛ إذ أن قوة التأثير تتأتى من بنية المشروع، وهو ما لا يزال أفقه ضائعاً ببعده الوطني لا الطائفي. ولا يمكن أو يفترض حصرالمشروع بالسنّة أصحاب البحر الواسع، بل لا بد أن يجد جسوره للتلاقي مع الآخرين، بحثاً عن مشروع قادر على استعادة التوازن الوطني الذي يشكل مدخلا لتوازن كل الطوائف وخروجها من ضياعها في سعيها إلى أدوار مفترضة.