في ظل الأزمات والحروب، تتركّز الجهود بشكل كبير على الأشخاص المتضررين مباشرة من الصراع، كالنازحين من أماكن الاشتباكات إلى مناطق آمنة نسبياً. ومع ذلك، هناك فئات أخرى تتأثر بشكل غير مباشر، حيث يؤدي النزاع الى تعطيل مصادر رزقها، مما يجعل تأمين احتياجاتها الأساسية أكثر صعوبة، بخاصة للعائلات التي تعتمد على أعمالها التي توقفت جرّاء الأعمال القتالية في البلاد
وفي مثل هذه الأوضاع، تنطلق المبادرات الفردية وتتحرك الجمعيات والمنظمات الحكومية والخاصة لتقديم المساعدات الغذائية والإغاثية للنازحين. ولكن في غياب جمع بيانات دقيقة عن احتياجات الأفراد، غالباً ما يؤدي توزيع الاعانات بشكل عشوائي إلى فائض في الطعام، نشهد كثيرا إهداره في مكبات النفايات، كما رصدته جريدة «اللواء». هذا التبذير له أبعاد خطرة، بخاصة في ظل احوال اقتصادية صعبة في لبنان، حيث تشير إحصاءات البنك الدولي إلى أن أكثر من ثلث اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر قبل اندلاع المعارك بين حزب لله وإسرائيل.
وبالتالي، يصبح من الضروري جمع المعلومات الدقيقة حول احتياجات النازحين والفئات الأخرى المحتاجة، ليس فقط لتجنّب إهدار الخيرات، بل أيضاً لتوجيه الفائض من المساعدات إلى الأسر الفقيرة، وتوفير توزيع عادل يلبّي احتياجات الجميع ويحدّ من إسراف الموارد المتاحة.
حصص كاملة مرمية في النفايات
وفي هذا الإطار، أجرت «اللواء» جولة ميدانية على عدد من المؤسسات التعليمية التي تحتضن مراكز إيواء للنازحين، شملت ثانوية سن الفيل الرسمية، ومعهد الفندقية في الدكوانة، ومهنية الدكوانة الرسمية، بالإضافة إلى ثانوية الجديدة الرسمية للصبيان (ثانوية الأخطل الصغير). وقد لوحظ وجود كميات كبيرة من الطعام ملقاة في مكبات النفايات بالقرب من هذه المؤسسات. وأثناء حديثنا مع بعض الأهالي المقيمين بمحاذاة هذه المستوعبات، أكدوا أن هذا الطعام الموضوع في النفايات هو فائض من الوجبات المقدمة للنازحين المقيمين في مراكز الإيواء. وأوضحوا أن قسما منهم لا يستسيغ تناول بعض الأصناف، مما يؤدي إلى تراكم الطعام غير المستهلك.
التوجيه ضروري لتجنّب «البعزقة»
من جانبها، تقول اختصاصية التغذية كريستال باشي لـ «اللواء» إنه «لا بد من توضيح مسألة مهمة في ما يتعلق بالتغذية، بخاصة المساعدات التي تندرج تحت مسمّى التغذية المجتمعية أو «community nutrition»، حيث يوجد اختصاص قائم بحد ذاته عن التغذية ضمن نطاق المجتمع. إذ تتطلب القرارات التي تُتخذ بهدف توزيع الإغاثات أو تلك التي تتمحور حول الوضع الصحي للأفراد دراسة دقيقة. في المقابل، أتفهّم حماسة الناس لجهة تقديم الدعم والمؤازرة، لكن من المستحسن المساعدة بطريقة صحيحة ومدروسة. فعلى سبيل المثال، لا يمكن توزيع الدواء عشوائياً، وذلك لوجود سبب لإعطاء هذا البلسم بحسب الحالة المرضية للمريض. وهذا يُطبق حرفياً أيضاً على الغذاء، حيث من المفترض أن يكون لدينا معلومات مسبقة عن الأشخاص الذين نجهز لهم الوجبات، بغية معرفة احتياجاتهم ولتفادي مسألة رمي الفائض من الطعام وللتأكّد من أنه يكفيهم ويناسبهم، أو العكس».
تصوّرات علمية لمنع التبذير
وتتطرق إلى بعض الأفكار التي تساهم في تجنّب حدوث أي تلف للوجبات المقدمة، من خلال النقاط التالية: أولاً، في حال عدم توافر معلومات كافية عن الأشخاص المراد مساعدتهم، فهذا يعني أننا لا نعرف وضعهم الصحي. وتشير إلى فئات لا تستطيع تناول أطعمة معينة، وذلك بعيداً عن موضوع «الحساسية الغذائية». فعلى سبيل المثال، قد يتطوع مواطن ما ويقرر أخذ الخضار والفواكه للنازحين على أساس أن الجميع باستطاعتهم استهلاك هذه الأنواع، لكن في الحقيقة ليس جميعهم قادرين على الأكل، وذلك استناداً إلى الوضع الصحي للبعض. تتعلق أبسط الأسئلة بما إذا كان الشخص يعاني من الإسهال، وآخر لديه مشكلة في الكلى، وبالتالي لا يمكنه تناول طبق يحتوي على البندورة، أو مجموعة مشكّلة من الفواكه، وهذا ينطبق أيضاً على النساء الحوامل اللواتي لا يمكنهن تناول أي ثمار دون تعقيمها، بما في ذلك كبار السن.
وتضيف «من هنا يمكن القول انه ليس شرطا أن ينسجم أي غذاء مع احتياجات كل فرد. لذلك، ينبغي جمع المعلومات، لأن الطعام الذي يُؤخذ للنازحين يكلف جهداً وأموالاً، وهناك زمرة قد لا ترغبه أو لديها شكوك حول اللحم إذا كان مذبوحاً حلالاً، أو قد يكون هذا الطعام فائضاً عن متطلبات المهجرين. لذا، الأجدى إرسال المواد الأساسية، لتتولى العائلات النازحة بنفسها إعداد أطباقها بالطريقة التي تفضّلها بحسب عاداتها وتقاليدها، دون إجبارها على أكل أطعمة قد لا تتناسب مع ذوقها أو ميولها. وبالتالي، عوضاً عن إرسال «صحن فول مُعدّ»، يمكن توفير علب يمكن فتحها عند الرغبة، مما يقلل قدر المستطاع من التسمم الغذائي لعدم بقاء الطعام لفترات طويلة. بهذا الشكل، يحصل النازح على كفايته، ونتجنب رمي كميات كبيرة من الغذاء في مستودعات القمامة، بغض النظر عن الأسباب الصحية أو الدينية أو عدم الرغبة في صنف معين».
وتختم قائلة: «في الخلاصة، أردت القول انه يجب الاستعانة باختصاصيين في مجال التغذية، لأنهم يعرفون بدقّة متطلبات كل فرد، وهم على دراية بمدى كفاية صندوق الإعانة المرسل من حيث الوقت، إذ لا يعقل أن تكون كمية الزيت أكبر من حصص النشويات المرسلة. لذلك تستلزم هذه القضايا دراسة معينة حتى نستطيع معرفة المقدار الذي يحتاجه الشخص، وبذلك نتفادى موضوع «كب» الحصص الجاهزة أو تلك غير المعدّة مسبقاً. أيضاً، تبقى هذه البيانات مهمة على المدى البعيد، لأن الأزمة على ما يبدو ستستمر. فمن يتناول منقوشة على الفطور لا يمكنه أكل وجبة كبيرة على الغذاء، بينما قد يحتاج شخص تناول سندويش لبنة إلى وجبة أكبر. لذا، يستوجب تنظيم الوجبات دراسة».
فائض في مراكز وشحّ في أخرى!
بدورها، توضح اختصاصية التغذية جاكي قصابيان لـ «اللواء» أنه «من المؤسف جداً هدر الطعام في هذه الظروف الصعبة، إذ تعاني بعض المراكز من فائض في الطعام على وجبات الافطار والغذاء والعشاء، في حين لا تصل إلّا وجبة واحدة الى مراكز أخرى، وتكون عبارة عن معلبات، حيث يقومون بتحضيرها بأنفسهم».
وتتابع: «الهدف، عندما تكون لدينا أزمة من هذا القبيل، هو تقديم الوجبات الجاهزة التي تتضمن أطباقا أو سندويشات، أو يتبرع أحد المواطنين بتوفير هذه الحصص للنازحين. ولكن عندما نجد أن الأزمة ستطول أكثر، يجب تصويب الهدف نحو الاتجاه السليم، أي ينبغي على النازحين تحضير هذه الوجبات بأنفسهم، لأن الاحتياجات والمتطلبات الفردية ستكون متباينة».وتشير الى انه «في المرحلة الأولى، عندما نجد أن المدة المرجحة لبقاء هؤلاء النازحين قد تخطّت الأسبوعين، فساعتئذ يجب أن يتوفر في مراكز الإيواء مطبخ يتضمن المستلزمات الضرورية مثل الغاز والثلاجة، يُسلم الى أشخاص قادرين على تحمّل مسؤولية إعداد الوجبات. وبذلك يصبح بإمكان كل فرد سكب المقدار الذي يكفيه في طبقه الخاص، مما يقلل من استخدامات البلاستيك، ويضمن أن يكون الطعام طازجاً وصحياً، وهذا يطبق بشكل خاص عندما تطول المشكلة».
وتشدّد على انه «إذا لم يكن هناك إمكانية لتفعيل هذا الخيار، فهناك عدة اعتبارات يجب أن تُراعى عند أخذ الطعام للنازحين. أولاً، لا يأكل الجميع نفس الكمية، لذا يجب اعتماد آلية قياس الوجبة أو ما يسمّى «portion size» الذي يكون متوسطاً. في علم التغذية، قياس الوجبة أو حجم الحصة (Portion Size) يشير إلى الكمية المحددة من الطعام الذي يتم تناوله في جلسة واحدة. ويختلف هذا المفهوم عن الحصة الغذائية (Serving Size) التي تُحدد بشكل علمي كنموذج للكمية التي يوصى بتناولها من قبل خبراء التغذية لتلبية الاحتياجات اليومية من العناصر الغذائية». وتلفت الى ان «مصطلح Portion Double يستخدم للإشارة إلى تناول ضعف الكمية المعتادة أو الموصى بها لحصة معينة، مما يعني أن الشخص يتناول كمية طعام أكبر، ويجب تزويده بالكمية اللازمة له».
وتختم «في ظل الحروب والأزمات الممتدة لأكثر من أسبوعين، يصبح من الضروري مراعاة احتياجات النازحين بشكل دقيق، لضمان توفير الإمدادات الغذائية التي تلبي احتياجات كل فرد بشكل يتناسب مع ظروفه الخاصة، لذا يجب أن تتوافر معلومات واضحة لكل فرد».