جاوز الهجوم الإسرائيلي المفاجيء على دولة قطر لاغتيال قادة حماس المجتمعين لمناقشة الورقة الأميركية كل السياقات الميدانية المألوفة. الهجوم الصادم وضع مستقبل العلاقات الخليجية الأميركية أمام اختبار دقيق بالرغم من تأكيد بنيامين نتنياهو أن قرار الهجوم قد اتُّخذ في إسرائيل وأنه وحكومته يتحملون المسؤولية الكاملة، وبالرغم من مسارعة الرئيس الأميركي إلى إعطاء العلاقات القطرية الأميركية كل ما يمكن أن تعطى من أبعاد لاستدراك الموقف.
استدعت الإستباحة الإسرائيلية إجتماعاً طارئاً للدول العربية والإسلامية في الدوحة لتقدير الموقف في ضوء المخاطر التي عبّر عنها الهجوم على الدولة التي تستضيف على أرضها القاعدة العسكرية الأميركية الأكبر في المنطقة، والتي تعرضت في اليوم الأخير من الحرب الأميركية الإسرائيلية على إيران لهجوم صاروخي صنفته طهران هجوماً على المصالح الأميركية في المنطقة، بما يسقط كل ما اعتبر سابقاً خطوطاً لا يمكن تجاوزها.
يندرج الموقف العربي والإسلامي الذي عبّر عنه المجتمعون في الدوحة، وللمرة الأولى منذ سنوات، تحت عنوان «إذا أردت السلام عليك الإعداد للحرب». إقترنت المواقف المتمسكة بالإستقرار والسلام في المنطقة وبحلّ الدولتين بتأكيد التضامن المطلق مع قطر والوقوف معها في ما تتخذه من خطوات للرد، وبالتحذير من الإندفاع الإسرائيلي نحو تحويل المنطقة إلى منطقة نفوذ إسرائيلية والدعوة لمواجهة العالم بموقف عربي موحد لوقف الحرب على غزة وقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. نجاح الدبلوماسية العربية في تأمين كل الحشد العربي والإسلامي لمواجهة إسرائيل سبقه نجاح دولي كبير عبّر عنه شبه الإجماع الدوليّ الذي ظهر في جلسة الهيئة العمومية للأمم المتّحدة، مع إعلان 142 دولة تبنّيها للورقة السعوديّة – الفرنسيّة المعروفة باسم «إعلان نيويورك» المتعلّقة بحلّ الدّولتين، الفلسطينية والإسرائيليّة. هذا الإعلان الذي اعتبره «جيروم بونافو» الممثل الدائم لفرنسا لدى الأمم المتحدة «خارطة طريق واحدة لتحقيق حلّ الدولتين، بفضل الإلتزامات الرئيسية التي قطعتها السلطة الفلسطينية والدول العربية من أجل السلام والأمن للجميع في المنطقة».
وبالتزامن مع القمّة المنعقدة في الدوحة ودون أي مبرر، وفي ما يمكن اعتباره محاولة لتحقيق نوع من التوازن مقابل الموقف العربي والإسلامي الموحد، وللرد في الوقت عينه على إعلان نيويورك، أوفد الرئيس دونالد ترامب وزير خارجيتة «ماركو روبيو» إلى إسرائيل.
لم ينجح روبيو في المهمة الموكولة إليه، ولم يمتلك خلال مؤتمر صحفي مشترك جمعه مع نتنياهو القدرة على تبرير العدوان الإسرائيلي على قطر تحت عنوان الفصل بين محاولة اغتيال القادة والمستقبل الذي ترومه واشنطن للفلسطينيين بعد حماس، كما لم ينجح في انتقاد الدول الغربية لاعترافها بدولة فلسطينية واعتبار ما قامت به «خطوات رمزية لا تقربنا من الحل» وبدا تحذيره لتلك الدول بأن إسرئيل سترد على خطوتهم نوعاً من النزق الذي لا يليق بدولة كبرى.
يقدم إعلان نيويورك نموذجاً لنجاح الدبلوماسية العربية في إحداث تحولات كبيرة في الوعي الغربي للقضية الفلسطينية كما في بناء علاقات دولية راسخة على قاعدة المصالح المشتركة، وفي هذا ما يمكن اعتباره تحولاً نوعياً في العقل العربي الذي خبر عبر عقود مخاطر المواجهات العصبوية غير المسؤولة. ما يجمع بين إعلان نيويورك وبيان القمّة العربية الإسلامية في الدوحة وحدة مسار دبلوماسي يؤكد التزام العالم العربي بالمواثيق الدولية ويعيد تعريف دوره في ضوء التشابك في المصالح الدولية. هذا النجاح في التحوّل النوعي مرده أولاً وأخيراً إلى نجاح العديد من الدول في تجاوز العصبيات والولاءات البدائية وإنتاج سلطات حقيقية راسخة تلتزم القانون وتعي مصالحها وتتخذ قراراتها عبر المؤسسات الدستورية.
لقد نجح الرئيس اللبناني العماد جوزاف عون خلال القمّة المنعقدة في الدوحة في الإنطلاق بعيداً عن المسلمات الداخلية وما اعتُبر منها من المحرمات السياسية. لا يمكن إلا التوقف عند الجرأة التي تجلت بدعوة عون الدول المجتمعة للذهاب إلى أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة بموقف موحد، وتكرار الإعلان بـــ» إننا جاهزون للسلام وفقاً لمبادرة السلام العربية التي عُقدت في قمّة بيروت « 2002». إن إعلان الجاهزية للسلام وفقاً لمعادلة السلام الكامل مقابل تطبيق القرارات الدولية هو الموقف الشجاع القادر على الخروج من رتابة المشهد السياسي وعدوانية الميدان اللذان يقدمان لإسرائيل أكثر من فرصة لتعميم التدمير والإرهاب بشكل يومي في لبنان وسوريا وغزة.
العميد الركن خالد حماده – اللواء