في عالم يشهد تطوراً متسارعاً في مختلف القطاعات، يبقى التعليم حجر الزاوية في بناء المجتمعات واستدامة التنمية. ومع احتفال العالم باليوم الدولي للتعليم في 24 كانون الثاني من كل عام، تتجه الأنظار هذا العام نحو موضوع “الذكاء الاصطناعي والتعليم: التحديات والفرص”، حيث تتسابق الدول لتوظيف التكنولوجيا في خدمة المتعلمين والمعلمين. لكن في لبنان، يقف التعليم عند مفترق طرق، مثقلاً بأعباء أزمات متتالية، من الإضرابات الطويلة إلى الانقطاع المتكرر للدعم الدولي الموجه لوزارة التربية، إلى جانب الصعوبات التي فرضتها أزمة المهجرين والحرب “الإسرائيلية” الأخيرة، التي حوّلت المدارس من مراكز للعلم إلى أماكن إيواء.
ونستذكر ان القطاع التربوي في لبنان، مرّ بموجةٍ من العقبات غير المسبوقة خلال السنوات الأخيرة، مما جعل التعليم أحد أبرز ضحايا الانهيار الشامل في البلاد. فمنذ عام 2019، تفاقمت الإضرابات، نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمعلمين، ما أدى إلى تعطيل العام الدراسي مراراً. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أضافت أزمة النازحين السوريين تحدياً جديداً، إذ أصبحت المدارس الرسمية تعاني من الاكتظاظ وانعدام الموارد، في ظل إحجام الجهات المانحة عن تقديم الدعم الكافي.ومع ذلك، يبرز الذكاء الاصطناعي كفرصة قد تسهم في إعادة إحياء التعليم ، إذا تم توظيفه بالشكل الصحيح، لانه يمكن أن يساعد في تحسين جودة التعليم، من خلال توفير أدوات تعليمية مبتكرة ، وتطوير مناهج تراعي التنوع الثقافي والاجتماعي للمتعلمين.
ولكن في لبنان يبقى السؤال: كيف يمكن للقطاع التربوي المأزوم الاستفادة من هذه التكنولوجيا، في ظل ضعف البنية التحتية الرقمية، وغياب رؤية واضحة للاستثمار في التعليم الذكي؟
يُمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون بمثابة البوصلة
وسط هذا العالم المستجد، قد يطرح سؤال بديهي وهو: هل يمكن أن يساهم الذكاء الاصطناعي في تحسين جودة التعليم؟ يجيب مصدر رفيع في وزارة التربية موضحاً لـ “الديار”: “يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون بمثابة البوصلة، التي تعيد توجيه دفة التعليم نحو مسار أكثر إشراقاً، إذا أُحسن توظيفه بشكل صحيح. فهو يمتلك القدرة على تفكيك التعقيدات التي تواجه الطلاب، وتحليل مساراتهم التعليمية بدقة، تُشبه عين النسر التي ترى أدق التفاصيل، مما يسمح بوضع خطط تعليمية مخصصة، تتناسب مع احتياجات كل طالب”.
ويضيف المصدر “كما أنه يقدم تفاعلاً فوريًا يشبه المرآة التي تعكس نقاط القوة والضعف، فيؤازر المعلمين على تقديم تغذية راجعة فعّالة، ويمنح الطلاب فرصاً لتحسين أدائهم في الوقت المناسب. وفي ظل العوائق الجغرافية والاجتماعية، يمكن لهذه التكنولوجيا أن تكون جسراً يربط المناطق النائية بمصادر تعليمية متقدمة، مما يُحدث ثورة في الوصول إلى التعليم”.
ومع ذلك، يحذر المصدر من بعض التحديات، قائلاً: “لكن، كما أن السيف قد يُستخدم للحماية أو الإيذاء، فإن الذكاء الاصطناعي لا يخلو من العيوب التي قد تنقلب على العملية التعليمية. فمن أخطر هذه الأخطار التحيز الخوارزمي الذي قد يُشبه مرآة مشوهة لا تعكس الواقع بصدق، مما يؤدي إلى ظلم فئات معينة من الطلاب. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاعتماد المفرط على هذه التكنولوجيا، قد يحول المعلم إلى ظلّ باهت لدوره الحقيقي، مما يضعف التفاعل الإنساني الذي يُعد جوهر العملية التعليمية. ولا يمكن إغفال مسألة الخصوصية، حيث تصبح بيانات الطلاب مادة خام في يد الأنظمة، ما قد يُعرّضها للانتهاك في حال غياب الضوابط الأخلاقية”.
ويشدد المصدر ذاته على ان “تحسين التعليم في المدارس الرسمية والجامعات اللبنانية، يمثل خطوة ضرورية لإخراج القطاع التربوي من أزماته العميقة، إذ يعاني التعليم الرسمي من مشكلات متراكمة، تبدأ من تفكك البنية التحتية للمدارس، مروراً بضعف التمويل وغياب الموارد اللازمة، وصولاً إلى الأعباء المترتبة على أزمة النازحين السوريين، التي زادت من الاحتشاد وضغطت على النظام التعليمي بأكمله. في الوقت ذاته، يعاني الاساتذة من تدني الرواتب وغياب الحوافز، ما انعكس سلباً على أدائهم واستقرارهم، وأدى إلى تكرار الإضرابات التي تعطل العام الدراسي”.
رؤية مستقبلية
ويتابع المصدر “أما على صعيد التعليم الجامعي فقد فقدت الجامعة اللبنانية، التي كانت يوماً ما رمزاً للتعليم الراقي والمتين، الكثير من مكانتها بسبب الأزمات الاقتصادية والتحديات التي أضعفت بنيتها الأكاديمية والإدارية. وتراجع التمويل المخصص للجامعة أثر بشكل مباشر في جودة التعليم، وأدى إلى انهيار أوضاع الأساتذة وهجرة الكفاءات الأكاديمية، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى تعزيز البحث العلمي، وتطوير البرامج الأكاديمية لمواكبة التغيرات العالمية”. لذلك، يضيف المصدر “ان إعادة إحياء التعليم في لبنان تتطلب رؤية شاملة تركز على إصلاح البنية التحتية، دعم الكوادر التعليمية مادياً ومعنوياً، تحديث المناهج الدراسية، وتأمين موارد مالية مستدامة تُسهم في تقوية التعليم الرسمي والجامعي على حد سواء”.
وينوّه المصدر في ختام حديثه إلى أن “نجاح الذكاء الاصطناعي في تحسين جودة التعليم يعتمد على شفافية توظيفه، وعلى دمجه ضمن استراتيجية تربوية متكاملة، تُراعي البعد الإنساني قبل التقني. فالتكنولوجيا، مهما بلغت من تطور، تظل أداة تحتاج إلى حكمة الإنسان لتوجيهها نحو تحقيق الأهداف النبيلة”.
التعليم الخاص بين الأزمات الاقتصادية وانحدار المقام التربوي
من جانبه، يقول نقيب المعلمين في المدارس الخاصة نعمة محفوض لـ “الديار”: “لقد تدولر كل شيء، وليس فقط الأقساط المدرسية، حتى إن حياتنا باتت بالدولار، وهذا ينسحب على الاحتياجات اليومية مثل البنزين وفواتير الكهرباء و”السوبرماركت”. وبالتالي، يتعاطى المواطن مع القسط المدرسي كما يتعامل مع بقية الأمور المعيشية الأخرى”.ويضيف “من وجهة نظري، أرى ان اللبنانيين يرغبون في تعليم أبنائهم، حتى وإن حُرموا من أهم مقومات الحياة اليومية. فالقسط في المؤسسة الخاصة، وإن كان بالدولار، لا يزال مقبولاً مقارنة بالأزمة. فالأساتذة خلال الأعوام 2019، 2020، و2021 علّموا بالسخرة، بمعنى آخر أننا علّمنا برواتب جدّ متدنية، وحتى على سعر صرف 1500 ل.ل. ولكن لم يعد باستطاعتنا الإكمال على هذا النحو. وأكثر من ذلك، جميع الكفاءات العلمية وأفضل المعلمين تركوا المهنة”.
زيادة مفرطة!
ويشير محفوظ الى اننا “بدأنا نحصّل بحدود 50% من رواتبنا بالدولار، ولكن لا يمكننا المتابعة على هذا الشكل لسببين: أولاً لأننا نتطلع إلى استعادة الراتب كاملاً. ثانياً هناك تضخم حتى على الدولار. وبالتالي، إذا لم تتحسن الأجور، فإن جميع أفراد الهيئة التعليمية المَهرة، إما سيتوجهون إلى السفر أو ترك هذا المجال، أو الانتقال إلى وظائف أخرى”.
نفقات “مرعبة”!
ويؤكد محفوظ أن “تكلفة التعليم في القطاع الخاص لا تزال مقبولة، مقارنة بكل الأزمات الموجودة في لبنان. فالقسط قبل الانهيار الاقتصادي كان يراوح بين 3000 إلى 4000 دولار، لكن حالياً تتراوح أقساط 70% من المدارس بين 1500 و2000 دولار. ولذلك، يظل القسط أقل مما كان عليه قبل الأزمة”. ويضيف قائلاً: بالطبع، هذا يرهق الأهالي، لأن 80% من الشعب صاروا فقراء، ويقاسون من أزمة تشمل جميع جوانب حياتهم بسبب هذه الأقساط”.
مبادرات لتخفيف الثقل عن الأهالي
ويتابع “تقدم بعض المدارس الخاصة تخفيضات، على سبيل المثال إذا كانت لدى العائلة ثلاثة أولاد، يتم خصم من 50 إلى 60% على قسط أحدهم. وإذا كان التلميذ متفوقاً، يُعفى بحدود هذه النسبة أيضاً. وفي حال كانت إحدى العائلات تمر بأزمة خانقة جداً، تقوم بعض المدارس بإعفاء أبنائها تماما من دفع القسط. كما يُعلّم قسم آخر من هذه المؤسسات العديد من الطلاب، دون أي مقابل مادي نتيجة محنة إنسانية تمر بها احدى الاسر”. وعند سؤاله عن تأثير الأزمة في جودة التعليم الخاص، يجيب محفوض: “أكيد انعكست على مستوى الأداء التعليمي، وأنا ذكرت أن هناك كفاءات تربوية تركت المهنة، والسبب الآخر لتراجع التعليم في لبنان هو في عدم مبالاة الدولة بالقطاع التربوي”. ويقول: “آخر همّها! بحيث ان ميزانية وزارة التربية في الموازنة العامة جداً ضئيلة، حتى إن العديد من المدارس الرسمية في مختلف المناطق اللبنانية تفتقر إلى الطبشور، في ظل انقطاع التيار الكهربائي وشحّ المازوت، وفي غياب المقاعد، وذلك قبل الحديث عن الرواتب!
ويتابع: “حين ترفض الدولة الاعتناء بهذا القطاع ولا تخصّص له موازنة “حرزانة” من أجل تأمين المستلزمات التربوية، فمن الطبيعي أن ينحدر المستوى الأكاديمي. وقسم من المدارس الخاصة في لبنان أضحى مؤسسات تجارية لا يلقون بالاً إذا كان الأستاذ كفؤاً أم لا، ولا يهتمون بما يُقدَّم للطلاب، المهم أن تحصل الإدارة على القسط من الأهالي”.
التفاوت بين المدارس الخاصة وتدهور المستوى الأكاديمي العام
ويشدد محفوظ على أنه “لا يمكن وضع جميع المدارس الخاصة في نفس الخانة، إذ توجد مؤسسات محترمة، وتسعى إلى المحافظة على مركز مقبول. ولكن للأسف، المقياس التربوي في لبنان تدنّى جداً جداً جداً. رغم أننا كنّا من بين العشر دول الأوائل في العالم، أصبح ترتيبنا حالياً بعد المئة. وانخفض التصنيف ليس فقط في التعليم الرسمي، بل أيضاً في الخاص. حتى إن درجة الشهادة اللبنانية قد تدنّت بشكل كبير. فنحن منذ نحو 5 سنوات نعمد إلى التشحيل في البرنامج. لذا، الشهادة الرسمية بدلاً من أن تُجرى في المنهاج الكامل، كان الاختبار يشمل ربع المنهج العام الماضي”.
غياب المحاسبةوممارسات غير قانونية
ويختم محفوض حديثه قائلاً: “في ظل غياب المتابعة والمحاسبة في المدارس الخاصة، من المفترض أن تتولى الوزارة والتفتيش التربوي هذه المهمة، والأولى ان تراقب “التربية” نفسها أولاً. ففي لبنان، “كل مين إيدو إلو”، إذ إن الكثير من المدارس الخاصة تتجاهل القوانين”.
ويكشف لـ “الديار” أن “صندوق تعويضات المدارس الخاصة قد رفع عدداً كبيرا من الدعاوى على بعض المؤسسات، ولا يوجد قضاء يحاسب ويسترد الحقوق. وهناك مؤسسات تحظى بحماية من بعض السياسيين، ولا يتجرأ القضاء على البتّ ببعض المسائل، وأضحى لكل مدرسة دولة مستقلة، تفعل ما تشاء، وهذا ينطبق على كافة القضايا في البلاد”.