لم يعد الحديث عن “المدعوم” كمن يفكّ طلاسم أحجية هذه السلطة بتفرّعاتها وسماسرتها وتفنّنها في سرقة وهدر المال العام، بل أصبحت زواريبه أشبه بمغارة علي بابا والتجّار والمهرّبين، حتى أمست الحكاية سرقة “على عينك يا لبناني”، على قاعدة أنّ الدعم لقطاع التهريب والتجارة. ولم تستطع الأزمات المالية والسياسية التي تضع مصير لبنان على محكّ زوال الكيان أن تكبح جماح أحزاب وتيارات السلطة من استغلال النفوذ لسرقة ما يسمّى بالمدعوم.
ثمّة ما هو ملحّ لأن يعرف اللبناني أين يذهب “المدعوم” ومن هم المستفيدون منه، في ظلّ حكومة فلسفت الدعم حتّى شرّعت أبواب الهدر، بين إعتمادات على سعر صرف الدولار للمواد الغذائية 1515، وللمواشي والأعلاف على سعر صرف الدولار 3900 ليرة، من دون أن يصل للمواطن من “البقرة الا أذنها”، ليشتري كل شيء على سعر السوق السوداء ما يتجاوز الـ 15 ألف ليرة للدولار الواحد كسعر معتمد لدى جميع التجّار وأصحاب السوبرماركت.
وبالتدقيق مليّاً في ملفّ اللحوم المدعومة، تعاني السوق اللبنانية شحّاً كبيراً في الثروة الحيوانية، لسببين رئيسيين: أولّهما، إمتناع تجار وشركات عن بيع الأبقار الى السوق المحلي بالسعر المدعوم، إضافة إلى تهريب الأبقار الى سوريا بكمّيات كبيرة، والثاني، تصدير الأغنام الى الخليج العربي، وبالتالي تفريغ السوق المحلي من الثروة الحيوانية ممّا يرفع ثمنها تلقائياً، ويحرم المواطن اللبناني من تناول اللحوم على أسعارها الحالية.
يكشف أحد العاملين في مجال تربية المواشي واستيرادها لـ”نداء الوطن” عن أنّ أكثر من 15 ألف رأس غنم يتمّ تصديرها أسبوعياً الى دول عربية، يطلب في هذه الأيام الغنم البلدي المعروف بـ”العويس”، (هو خروف بلدي عمره صغير وزنه لا يتجاوز الـ 40 كيلوغراماً، يربّى في بادية الشام، وبين لبنان وسوريا). ويؤكد أن بعض التجار عمدوا الى استيراد هذا النوع من الغنم من منطقة أورفة التركية، حيث يتمّ استيراده بسعر أغلى بنصف دولار عن سعر كيلوغرام غنم البيلا القادم من تركيا وجورجيا ورومانيا وغيرها، فيتمّ نزع “الكبسة” عن أذنه وإطعامه الشعير والتبن لمدّة اسبوعين، وبعدها يتمّ تصديره عبر المطار الى الخليج العربي على أساس أنّه بلدي عويس بـ 270 دولاراً اميركياً عن كل خروف واصل. هكذا تتمّ سرقة المال العام، وبعملية حسابية يتبيّن أنّ بعد الدعم يصبح رأسمال كيلو المستورد دولاراً واحداً. فإذا كان سعر كيلو الغنم الحي 3 دولارات وسعر الدولار مع ارباحه 4 آلاف ليرة، يصبح سعر الكيلو بـ 12 ألف ليرة، أي بدولار واحد على سعر صرف السوق السوداء، وبالتالي تكون أرباحهم طائلة.
حاولت “نداء الوطن” الاتصال بوزير الاقتصاد راوول نعمة مراراً وتكراراً الا انه لم يردّ.
وفي هذا الإطار، يكشف مصدر من وزارة الاقتصاد لـ”نداء الوطن” أن المستورد (ذ. ن) محسوب على أحد الوزراء، يعتبر من أكبر مهربّي الأبقار الى سوريا، ومن مصدري الأغنام الى الخليج، إستأجر منذ نحو سنة مزرعة مخصصة لتربية الأبقار في بلدة حوش الحريمة في البقاع الغربي، يعمل لصالح التاجر السوري (ع. م. الشواحني)، والذي يموّل جميع صفقاته التجارية وعمليات الاستيراد والتهريب، فيتم استيراد الأبقار والمواشي باعتمادات مصرفية بسعر صرف 3900 ليرة، لتذهب الى جيوبهم. ويقول: “الوزارة مقصّرة، وسياسة الوزير في متابعة ملفّ الدعم بالآلية الموجودة ضاعفت الخسائر وأوقعت المواطن وخزينة الدولة في أتون النزيف”.
من جهته، وزير الزراعة عباس مرتضى إستهل حديثه لـ”نداء الوطن”، طالباً من وزير الاقتصاد إحالة ملف اللحوم الى النيابة العامة المالية في أسرع وقت ممكن، وقال “إن وزارة الزراعة موافقتها فنّية في خصوص الإستيراد والمواصفات، وهي خاضعة لوزارة الاقتصاد والتجارة المطالبة بحماية السلع كونها لديها صلاحيات كاملة بهذا الخصوص”، واضاف: “لبنان حالياً محتكم الى كارتيلات وهي أقوى منا بل وتتحدّانا”. ودافع وزير الزراعة عن الاذونات في التصدير على أساس أن ما يتمّ تصديره الى الخليج خروف “العويس” البلدي الذي تتم تربيته في المراعي البرية بين لبنان وسوريا، وهو سعره غالٍ ومرتفع، وكنت أصدرت قراراً بوقف التصدير بهدف تعويم السوق المحلي، ما أدّى الى تدخّل الجانب القطري مع رئاسة الحكومة لإعادة تصدير الخروف البلدي لأنّ الخليجيين يستهلكونه، فيما اللبنانيون لا يشترونه لان سعره مرتفع جداً”. وتابع: “الخليجيون لا يأكلون الخروف التركي، والا لماذا يستوردونه من لبنان طالما هو موجود في تركيا”؟ ونفى أن يكون من ذات النوع المستورد من تركيا.
وأضاف: “المشكلة الأساسية ليست في الغنم بقدر ما هي في البقر، لأنّ لبنان إستهلاكه أكبر في لحوم الأبقار، منها نتيجة صراع داخل كارتيل اللحوم المستوردة، التهريب ليس من مسؤوليتي، انما تدخّلي هو مؤازرة وليس من صلاحياتي مكافحة التهريب والإحتكار”. وأشار الى “أنّ في هذا الملفّ ظلامية يذهب الصالح بظهر الطالح، بعض المستوردين باعوا ما لديهم من ابقار للسوق المحلي، وآخرون يمتنعون عن بيع الأبقار المدعومة، فلا يمكن المساواة بين من يبيع وبين من يحتكر”.