غابت تعليقات المسؤولين الفرنسيين في باريس عن حركة الاتصالات والمواقف التي رافقت زيارات الموفدين إلى العاصمة اللبنانية خلال الأسبوع الماضي ولكن غياب التعليق الرسمي لا يعني انصراف الاهتمام الفرنسي عن الملف اللبناني ومتابعة تطوّر الأوضاع خصوصًا في الجنوب لناحية تنفيذ وقف إطلاق النار ووضع قوات اليونيفيل كما قال أحد مساعدي الناطق باسم الخارجية.
وفي هذا الإطار، فإن الاتصالات لم تنقطع بين المسؤولين الفرنسيين ونظرائهم الأميركيين والسعوديين الذين يتولّون معالجة الملف اللبناني. وعلمت “نداء الوطن” أن التحرك الدبلوماسي الفرنسي قد يعود إلى الواجهة في الفترة المقبلة من أجل متابعة تأمين الاستقرار الأمني والمساعدات للجيش.
وإلى أن تتبلور نتيجة التحرّكات والمبادرات العربية والدولية التي رافقت استعداد لبنان للتفاوض مع إسرائيل ضمن أطر محدّدة، تبدو الرسائل الأميركية إلى لبنان أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. فالمبعوث الأميركي توم برّاك لم يُخفِ انزعاجه من بطء الحكومة اللبنانية في تنفيذ التزاماتها تجاه المجتمع الدولي، ولا من تردّدها في ترجمة شعار “الدولة الواحدة” إلى خطوات عملية.
حين قال إن “لبنان دولة فاشلة”، لم يكن يقصد الإهانة بقدر ما كان يُعلن تشخيصًا سياسيًا صريحًا: أن الدولة اللبنانية، بكل من يتولّى مسؤولية الحكم فيها، لا تزال عاجزة عن استعادة قرارها السيادي الكامل.
برّاك، في تصريحاته الأخيرة من منتدى البحرين، أرسل رسائل متعدّدة الاتجاهات. أوّلها موجّهة إلى الحكم في بيروت، ومفادها أن الشرعية الدولية لا تعترف بدولة تتقاسم القرار مع طرف مسلّح خارج مؤسّساتها. وثانيها إلى القوى المحلية والإقليمية التي لا تزال تستثمر في مشاريع زعزعة الاستقرار مفادها بأن واشنطن لن تسمح بتحوّل لبنان إلى ساحة مناوئة للقرار الدولي الناجم عن عملية “طوفان الأقصى” والقاضي بتعطيل مفعول أي قوة تعمل على زعزعة الاستقرار العام في المنطقة، من هنا لم يكن كلامه التوضيحيّ من أن الحكومة “عاجزة عن سحب السلاح خوفًا من حرب أهلية” تبريرًا لعجزها، بل توصيفًا صريحًا لطبقة سياسية غير قادرة فعلًا أو تتردّد في نزع سلاح “حزب اللّه” وللمخاوف لدى المسؤولين من أن يؤدي ذلك إلى مواجهة داخلية مع تشدّد بالمقابل بنزع الصواريخ التي تهدّد إسرائيل.
بما أن الدبلوماسيين عادةً لا يتحدّثون بهذه الصراحة إلّا حين يستنفد الصبر وبالتالي المهل، فإن كلام برّاك ليس “نصيحة” بل إنذارًا سياسيًا موجّهًا إلى أركان السلطة الذين يتصرّفون بمنطق التسويات وتدوير الزوايا واسترضاء من يجب استرضاؤه وذلك في أكثر المراحل مصيرية من تاريخ هذا البلد.
وفي قراءة لما بين السطور، بدا المبعوث الأميركي أكثر واقعية من المتشدّدين في واشنطن أو تل أبيب. فهو يدرك أن نزع سلاح “حزب اللّه” بالقوة مستحيل من دون إشعال حرب أهلية، لذلك تحدّث عن “مقاربة ناعمة” تهدف إلى سحب الصواريخ النوعية التي تهدّد أمن إسرائيل، لا إلى تفكيك “الحزب” أو إقصائه سياسيًا. إنها صيغة “الاحتواء التدريجي” لا “الاجتثاث”، لكنها تحمل في الوقت نفسه ضغطًا حقيقيًا على الحكومة اللبنانية كي تنطلق من دون تأخير في مسارٍ واضح نحو توحيد القرار العسكري.
في خلفية هذا الموقف، تقف معادلة دقيقة: المجتمع الدولي مستعدّ لدعم لبنان اقتصاديًا وماليًا، لكنه يشترط أن تكون الدولة وحدها المرجع في القرار الأمني والسياسي. وكل تأخير في هذا المسار سيؤدي إلى نتائج خطيرة: تجميد المساعدات، خسارة الدعم العربي، وربما عودة الحديث عن “عزلة لبنان” في محيطه الإقليمي.
تحذير برّاك ليس إنذارًا بحرب، بل إنذارًا بسحب الغطاء. فالعالم لن يحمي دولة تتردّد في حماية نفسها، ولن يدافع عن حكومة تُبقي جزءًا من سيادتها معلّقًا على إرادة طرف داخلي مسلّح.
في النهاية، يقف لبنان أمام معادلة وجوديّة: إمّا أن يختار منطق الدولة الواحدة والقرار الواحد، وإمّا أن يبقى عالقًا في رمادية سياسية تُفقده ثقة الخارج وفرص النهوض في الداخل.
الوقت، كما قال برّاك، ليس في صالح لبنان. وما لم يُحسَم ملف السلاح سريعًا برؤية وطنية شجاعة، فإن لبنان قد يجد نفسه، مرة أخرى، دولة تبحث عن نفسها في مرآة الآخرين.
أندريه مهاوج – نداء الوطن


