بات إستخدام السيارة الخاصة كوسيلة للنقل في بلاد الأرز عبئاً حقيقياً يحاول الجميع تفاديه أو التخفيف من وطأته… ومع فوضى النقل العام (الحكومي) وغيابه، ذهب المواطنون في إتجاه حلول أخرى، تقنية ومبتكَرة حيناً وخطرة أحياناً أخرى ولكنها تقلّهم إلى حيث يقصدون. وبين التطبيقات الذكية للنقل مثل أوبر وكريم وبولت وغيرها و«التوك توك» الشعبي والدراجات النارية، يبحثون عن وسيلة نقل «وفّيرة» وأقلّ تكلفة.
فمع الإرتفاع المضطرد في سعر الوقود يعيش لبنان على وقع أزمة نقل مستفحلة يرزح تحت وطأتها السائقون والركاب والأهل والتلاميذ والموظفون وكل لبناني مضطر للتنقل يومياً. وتنذر أزمة النقل بالتفاقم والتحول أسرعَ وسيلةٍ لتمادي الإنهيار ما لم تسارع الحكومة إلى تفعيل خطة حقيقية فاعلة للنقل فلا تبقى وعودها حبراً ليس على الورق بل على الزفت (أسفلت). ومع غياب هذه الخطة يحاول أبناء البلاد المتعَبة إيجادَ الحلول على طريقتهم الخاصة ولو على حساب أمانهم.
بدل النقل… حرب استنزاف
تكلفة «السرفيس»، وهو وسيلة النقل الشعبية التي يعتمدها اللبنانيون والتي تقع في منطقة وسطى بين الحافلات وسيارات التاكسي، ستشهد ارتفاعاً ملحوظاً مع قفزها إلى 80000 ليرة بعدما شهدت «وثبات» عدة متتالية في الفترة الماضية. وإذا اعتبرنا أن كل مَن يودّ التوجه الى عمله يحتاج إلى أكثر من «سرفيس» ذهاباً وأياباً، يمكن أن نتخيل قيمة ما يدفعه العامل أو الموظف للوصول الى مركز عمله. وهي قيمة بلا شك أعلى بكثير من بَدَل النقل اليومي الذي رفعتْها الحكومة الى 95000 فقط معتبرة أنها أدت بذلك واجبها نحو المواطنين في حين أن تكلفة تنقلهم بوسائل النقل العامة أو بسيارتهم الخاصة تتخطى تلك القيمة بأضعاف مضاعفة.
وتحوّل عبء التنقل مشكلة ضاغطة تهدد بالتأثير على مجمل الوضع المعيشي في لبنان ولا سيما في غياب خطة منظَّمة للنقل وعدت بها الحكوماتُ المتعاقبة من دون أن ترى النور، رغم أن خطة النقل الموعودة كان تمويلها مؤمَّناً من البنك الدولي فإذ بها تُستخدم لتمويل ما يعرف باسم البطاقة التمويلية التي أنشئت لمساعدة العائلات الأكثر فقراً من دون أن يُعرف مصيرها هي الأخرى.
وبين النقل العام المملوك من الدولة وذاك المملوك من القطاع الخاص ويشمل الباصات والفانات وسيارات السرفيس الصغيرة، غرق قطاع النقل في الفوضى وعشوائية التسعيرة.
ورغم محاولات وزارة النقل فرض بدل رسمي، إلا أن جزءاً من القطاع الخاص لا يلتزم به وغالباً ما تقوم النقابات التابعة لإتحاد قطاع النقل العام في لبنان بتحركات وإضرابات للمطالبة برفع التسعيرة وتحسين حقوق السائقين العموميين. ولم يستطع القطاع الخاص أن ينضوي تحت لواء خطة نقل متكاملة يكون هو نقطة الإرتكاز فيها في ظل عدم قدرة الدولة على تأمين وسائل نقل فعالة.
باصات الهِبة الفرنسية في… مهبّ الأزمة
فالدولةُ اللبنانية التي لم تكن تملك أكثر من 45 باصاً، تلقّت من فرنسا هِبة عبارة عن خمسين باصاً متطوراً لكنها لم تستطع حتى الآن تسييرها لأسباب كثيرة ليس أقلها عدم وجود سائقين مؤهلين لقيادتها وعدم رغبة وزارة النقل في توظيف سائقين جدد وقاطعي تذاكر وتحمُّل تكلفة رواتبهم في ظل قرار وقف التوظيف المعتمَد حالياً. وهي تبحث عن طريقة للتعاقد مع سائقين من القطاع الخاص عبر مناقصات ودفاتر شروط. ولكن اليوم وبعد ستة أشهر ما زالت الباصات الفرنسية خارج الخدمة ولم يستفد منها اللبنانيون بعد فيما هم في أمسّ الحاجة إليها، وما زالت خطة النقل تفتّش عن تمويل. فيما إذا شاء اللبنانيون استخدام باصات النقل الخاصة فإنهم لا يعرفون لها توقيتاً لأنها لا تسير وفق خطة معيّنة وعليهم انتظار مرور الفان أو الباص أو حتى السرفيس على الطريق حين يخطر له ذلك فلا يتمكنون من ضبط موعد وصولهم الى أعمالهم ولا تكلفة ذلك.
وفي حين تلقى تطبيقات النقل في العالم أجمع نجاحاً كبيراً، إلا أنها في لبنان تعاني مشاكلات عدة ليس أقلها سعر الاشتراك بالانترنت بالنسبة للسائقين وانقطاعه المتكرّر، وفرض الشركة المشغّلة تسعيرةً لا تتناسب مع واقع الحال وسعر صفيحة البنزين. ولذلك بات العديد من السائقين في هذه التطبيقات يعمدون إلى إستبدال سياراتهم بدراجات نارية مصروفها أقل وطرْحها على الزبائن كبديل عن السيارة. أما بالنسبة إلى الركاب الذين يستخدمون هذه التطبيقات، فيتعاملون معها كخشبة خلاص لأنها تبقى أقل كلفة من التاكسي أو السرفيس العادي، حتى أن الكثيرين منهم يفضّلون طلب دراجة نارية مع ما يترتب عليه ذلك من أخطار ولا سيما في غياب مراقبة إجراءات السلامة من شرطة السير. والأدهى انه دخلت على الخط دراجات لغير اللبنانيين ليست مسجَّلة في دائرة الميكانيك وأصحابها غير معروفين لكنها تعمل في الشوارع وهو ما يمكن أن يعرّض أمان الركاب للخطر أو يعرّضهم للسرقة أو الإعتداء.
الدراجات النارية… كـ«النار في الهشيم»
وبما أن الضرورات تبيح المحظورات، فقد تعددت وسائل النقل غير الآمنة التي يستخدمها المقيمون على الأرض اللبنانية. ولم يعد صادماً رؤية دراجات نارية تقلّ عائلات بأكملها و«هو أمر خطر جداً ومستفزّ» كما يقول فؤاد الصمدي وهو أحد مسؤولي جمعية «يازا» التي تهتمّ بسلامة السير «لأن ربّ العائلة يقود عائلته في هذه الحال نحو المجهول أو حتى إلى الإنتحار. وغلطة صغيرة من سائقها تؤدي إلى إنقلاب الدراجة وإصابة كل مَن عليها. ومنذ فترة غير بعيدة تعرضت عائلة من أربعة أشخاص على دراجة قرب المدينة الرياضية لحادث توفيت فيه الأم وإبنها. فيما أخرى في منطقة الأوزاعي سقط منها طفل وتوفي في حادث مؤلم، وفي حادث مماثل توفي رضيع لا يتخطى عمره أربعة أشهر إثر سقوطه عن دراجة نارية كان فيها مع والديه».
استخدام الدراجة النارية للتوفير في إستهلاك البنزين والسرعة في التنقل بات شائعاً جداً في بيروت بحيث صارت الدراجات الصغيرة تملأ شوارع العاصمة والمناطق، وكثر من سائقيها لا يملكون رخصة قيادة أو حتى تعلّموا أصولها وأبسط قواعد سير الدراجات على الطرق أو هم لم يَبلغوا الثامنة عشرة من عمرهم بعد ويقودون دراجتهم بلا خوذة ولا سبل وقاية ويشكلون خطراً على أنفسهم والآخرين من سائقين ومارة.
«التوك توك»… مشكلة وحل
في مناطق البقاع والشمال وحتى في بعض شوارع بيروت صار مشهداً مألوفاً سيرُ «التوك توك» في الشوارع، وهو وسيلة نقل شبه بدائية تُستخدم في دول العالم الفقيرة ذات الكثافة السكانية العالية. فهذه الوسيلة العملية أرخص بمراتٍ من التاكسي أو السرفيس وهي الحل – الحلم بالنسبة إلى بعض المناطق للتنقل والوصول إلى العمل.
وتقول أم غازي وهي سيدة بقاعية إنها وجدت في «التوك توك» الحلّ لكل مشاكلها، فهي ترسل أولادها صباحاً الى المدرسة بهذه الوسيلة وتعيدهم ظهراً الى البيت وتُجْري أكثر من «نقلة» صبحاً وظهراً لنقل المزيد من التلامذة عوض الحافلة المدرسية، وتتقاضى من أهاليهم ربع ما قد يدفعونه للحافلة. وخلال النهار يعمل زوجها على توزيع الخبز من الأفران الى المحلات بواسطة «التوك توك» ذاته ولا بأس أن يصعد معه بعض الركاب لقاء بَدَل«وقد شكل التوك توك مصدر رزق لنا، وإزدهاره في منطقة البقاع في شكل خاص يدلّ على مدى حاجة المنطقة إلى وسيلة نقل شعبية زهيدة الثمن».
لكن مَن يضمن سلامة التلامذة الصغار في هذه الوسيلة غير المُعَدّة أصلاً للتنقل مسافات طويلة أو حمْل عدد كبير من الأشخاص؟ ومَن يضمن أن يكون مَن يقودها متمرّساً لتجنب حوادث سير خطرة قد تؤذي التلامذة والركاب غير المزوّدين بخوذات حماية؟
النقل يشل القطاع الحكومي
أما آخر إبتكار لجأ إليه اللبنانيون فهو ما يعرف باسم Car Pooling أي مشاركة السيارة الواحدة من عديدين يتوجهون الى المكان نفسه. وقد بات هناك أكثر من تطبيق يَعتمد هذه الوسيلة. لكنها، وبحسب أحد الذين أطلقوها لم تلقَ التجاوب الكبير بعد رغم كونها توافر على الراكب أكثر من 70 في المئة من تكلفة النقل. ويعود السبب إلى كون اللبنانيين غير معتادين بعد على ثقافة التشارك في النقل ويفضّلون إعتماد سياراتهم الخاصة أو الإنتقال بمفردهم عبر وسائل النقل. إلا أنه يمكن لهذه التطبيقات أن تحل مشكلة كبيرة ولا سيما لمن ينتقّلون لمسافات طويلة من المناطق نحو العاصمة مثلاً.
كثر تَخَلّوا عن إستخدام سياراتهم للتنقل في شكل يومي وباتوا يقصدون مراكز عملهم مرتين أو ثلاث أسبوعياً ومن بينهم موظفو القطاع العام الذين تساهلت الدولة وإداراتها الرسمية معهم وسمحت لهم باختصار إسبوعهم إلى يومين وذلك حتى توفّر على نفسها وعليهم تكلفة دفْع بَدَل النقل. وقد أثّر هذا التراخي في الوصول إلى مركز العمل لأداء الوظيفة الحكومية في شكلٍ كبير على إنتاجية هؤلاء وقدرتهم على تسيير أمور الناس في مختلف الميادين.
وسط هذه الدوامة ومهما حاول اللبنانيون إبتكار حلولٍ، يبقى التنقل أزمةً ضاغطة تضاف إلى فتائل إنفجار إجتماعي قد يحصل في أي وقت… فكلفته عبء ثقيل على كاهل كل فرد وكأن اللبناني في حرب إستنزاف مفتوحة وقاسية.