أراد وليّ العهد السّعودي الأمير محمّد بن سلمان للقمّة العربيّة الثّانية والثّلاثين أن تكون استثنائية في شكلها ومضمونها، وكان له ما أراد، تتويجاً لمسار الانفتاح الّذي انتهجته المملكة العربيّة السّعوديّة وإعادة التّموضع في ظلّ المتغيّرات الدّوليّة والإقليميّة.
هذا المسار الّذي بدأ بإعلان رؤية 2030 فرض نسقاً ونمطاً ثوريًّا في مقاربة الملفّات الدّاخليّة والخارجيّة، فبعد التّحوّل العميق في الفكر والنّهج والسّلوك الدّاخلي وإحداث نقلة نوعيّة قياسيّة، زمنيًّا وأيديولوجيًّا، توّجهت الأنظار نحو الخارج فانفتحت السّعوديّة على الشّرق نحو الصّين وروسيا خصوصاً مستفيدة من المتغيّرات الدّوليّة وتراجع النّفوذ الأميركي في منطقة الشّرق الأوسط على مبدأ تعدّد الخيارات في عالم جديد متعدّد الأقطاب.
وانطلاقاً من مبدأ «تصفير المشاكل» مع المحيط العربي والإسلامي كان إعلان «بكين» بالتّفاهم التّاريخي مع الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة فهدأت حرب اليمن ووضعت الأزمة على سكّة الحلّ، ثمّ دارت المحرّكات الديبلوماسيّة الهادفة إلى إعادة سورية إلى الجامعة العربيّة فاستجاب العرب إلى المسعى وعادت سورية إلى مكانها الطّبيعي في جامعة الدّول العربيّة.
وبالتّوازي حدث تحوّل لافت في الموقف السّعودي اتّجاه الملفّ الرّئاسي اللّبناني بالانتقال من الحياد السّلبي إلى الحياد الإيجابي عبر رفع الفيتو عن الوزير السّابق سليمان فرنجيّة والتّأكيد على عدم معارضة أو تأييد أيّ من المرشّحين، والضّغط باتّجاه إنجاز الاستحقاق الرّئاسي في أسرع وقت ممكن.
وإذا كان في لبنان من يصرّ على حالة إنكار الواقع ومحاولة القفز فوق المتغيّرات فإنّ في الإقليم قادة أصحاب رؤى استراتيجيّة ترفّعوا عن الخلافات والمناكفات واتّخذوا قراراً جريئاً بالتّغيير النّاعم، بعدما قاموا بتقييم تجربة الحروب المدمّرة واتّخذوا منها الدّروس والعِبَر، فوضعوا مصالح بلادهم وشعوبهم فوق خلافاتهم السّياسيّة واختلافاتهم العرقيّة والعقديّة، وفوق مصالح الدّول الكبرى الّتي كانت تغذّي الخلافات والصّراعات لصالحها.
من اليمن إلى سورية، أكثر ساحتين دموية وخراباً وانقساماً، بدأت ملامح التّغيير الإيجابيّ، فماذا عن لبنان؟
كان تقدير معظم الكتّاب والمحلّلين السّياسيين بأن يغيب لبنان عن اهتمامات القادة المجتمعين في جدّة، وإذا حضر في البيان الختامي سيحضر من باب رفع العتب، ولكن كالعادة، أتت الوقائع عكس الأمنيات وكان لبنان حاضراً في فقرة طويلة مفصّلة من 12 بنداً لتضع النّقاط على الحروف وتعيد صياغة الثّوابت الوطنيّة الّتي كرّسها اتّفاق الطّائف وقرارات الشّرعيّة الدّوليّة والعربيّة، إضافة إلى تكريس المقاومة باعتبارها مبدأً أقرّته المواثيق الدّوليّة ومبادئ القانون الدّوليّ.
وإلى ذلك كانت ملفتة الإشارة إلى التّأكيد على وحدة لبنان بتنوّعه الطّائفي على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، بند يقطع الطّريق على أصوات الفدرلة والتّقسيم وتغيير الصّيغة الّتي ارتفعت مؤخّراً، وحثّ السّلطات اللّبنانية على مواصلة جهودها لانتخاب رئيس الجمهوريّة وتشكيل حكومة في أقرب وقت ممكن، حرصاً على انتظام عمل المؤسّسات الدّستورية والاستقرار ولضرورة إجراء إصلاحات اقتصادية هيكليّة للخروج من الأزمة الاقتصاديّة.
فهل تلقى رسالة أشقاء لبنان صداها لدى أبنائه؟
نحن أمام أسابيع قليلة حتّى يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من إنهاء الشّغور الرّئاسي، وإلّا فلبنان سيكون في مهبّ العاصفة، فإذا لم تتلقّف المعارضة رسائل العرب وتستفيد من أجواء المصالحات والتّفاهمات باعتماد الواقعيّة السّياسيّة سندخل في نفق بلا أفق، وقوى المعارضة أمام خيارين منطقيين لا ثالث لهما:
– الاتّفاق على مرشّح يواجه سليمان فرنجيّة وليربح من يربح.
– دخول أحد الحزبين المارونيين الكبيرين أو كلاهما في حوار مع فرنجيّة والتّفاهم معه على عناوين العهد الجديد.
أمّا البقاء في مربّع الرّفض السّلبي من دون الإقدام على خطوة إيجابيّة فسيضع هذه القوى في مواجهة الخارج الّذي يلوّح بعقوبات على المعطّلين، وليتحمّلوا هذه المسؤوليّة وتبعاتها.
مصدر قريب من الثّنائي الشّيعي رحّب ببيان قمّة جدّة المتعلّق بلبنان وقال لـ«اللواء»: «مندرجات البيان تمثّل تطلّعات اللّبنانيين، ونحن ننظر بإيجابيّة وتقدير إلى بيان الجامعة العربيّة برمزيّة مكان انعقادها، ونؤكّد على كلّ ما ورد فيه انسجاماً مع ما كنّا وما زلنا ندعو إليه من الحرص على اتّفاق الطّائف والصّيغة اللّبنانيّة»، وأضاف: «فيما يخصّ التّفريق بين المقاومة والإرهاب فإنّنا نحيي المجتمعين على ترسيخ هذا المفهوم ونخصّ بالتّحيّة قيادة المملكة العربيّة السّعوديّة باعتبارها الحاضن للقمّة والمقرّر الأوّل في صياغة بيانها».