في لبنان، حيث الجبال تُنبت الينابيع، والأنهار تشقُّ طريقها من الشمال إلى الجنوب، يقف المواطن اليوم أمام مفارقةٍ قاسية: ماءٌ يجري تحت قدميه، لكن ظمأه لا ينطفئ. في وطنٍ كان يُعرف يوما بـ «خزَّان الشرق»، بات الوصول إلى الماء أشبه بمطاردة سرابٍ في صحراء مُقفرة، حتى غدت الدولة نفسها شبيهةً بآبارها الجافة، تَعِد ولا تُروي.الجدير بالذكر انه على مدى السنوات الأربع الماضية، تفاقمت أزمة المياه، فلم تعد مجرد معاناةٍ موسمية مرتبطة بالجفاف، بل تحوّلت إلى كارثةٍ دائمة، تتشابك فيها خيوط الإهمال الرسمي، والفساد المالي، والانهيار الاقتصادي، والتغيّرات المناخية. الدولة، ممثلةً بمؤسسات المياه الرسمية، تبدو كعابر سبيلٍ فقد بوصلة الطريق، تتخبط بين الحجج المتكررة: مرةً تتذرع بارتفاع أسعار المحروقات، وأخرى بانقطاع الكهرباء، وثالثةً بشحّ الأمطار، لكنها نادرا ما تنظر في مرآة تقصيرها، لترى كيف تحوّلت المؤسسات المعنية بإدارة هذا المورد الحيوي إلى أوكارٍ للهدر والإهمال وربما المحسوبيات.
البداية الفعلية لانهيار القطاع
من المؤكد أن أزمة المحروقات التي تفجّرت في صيف 2021 كانت بمثابة إعلانٍ رسمي عن دخول قطاع المياه في دوامة الانهيار. بدأت المضخات في محطات الضخ الحكومية بالتوقف تباعا، والمياه التي كانت تصل إلى المنازل ولو بشكلٍ متقطع، باتت شبه معدومة. في بعض المناطق، خاصةً في بيروت الكبرى وجبل لبنان، لم تُضخ المياه سوى مرة كل شهرين، حتى بات سكان العاصمة وجوارها يعتادون على شراء المياه من الصهاريج، بأثمانٍ تفوق قدراتهم، فيما تسلّلت أزمة مماثلة إلى الجنوب والبقاع والشمال، حيث بدأ السكان بحفر الآبار الارتوازية، أو شراء المياه من أصحاب الآبار الخاصة بأسعارٍ خيالية.
تبريرات المؤسسة وواقع المواطن
من جهته، يبرر المدير العام لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان، جان جبران، في حديثه لـ «اللواء» أنه «نظراً للتغيّر المناخي، اضطرت المؤسسة إلى إجراء تقنين قاسٍ إلى حد ما. ورغم توفر كميات كافية من مياه الآبار التي تمتلكها، إلّا أننا نتطلّع إلى توزيعها بعدل وحذر على المواطنين لضمان الاستمرارية على المدى البعيد، وذلك بسبب انخفاض منسوب المياه الجوفية».
ويكشف لـ «اللواء» أن «الصهاريج التي توزع المياه لديها آبار غير مرخصة، ولا نعلم مدى خلوّها من الجراثيم، في حين أن مياه المؤسسة موثوقة ونظيفة وخالية من أي ملوثات، وإن كانت تصل إلى اللبنانيين بشكل محدود، لكننا نكفل نظافتها وأمان استخدامها».وعن إمكانية رفع التعرفة في الأشهر المقبلة، يؤكد أن «الرسوم كانت حوالي ثلاثة عشر مليونا وثلاثمائة ألف ليرة لبنانية، وقد أصبحت 16 مليوناً. ويُعتبر هذا الرسم مقبولاً، وإن كان لا يكفي لتغطية نفقات الموظفين وأعمال الصيانة التي تقوم بها المؤسسة، بالإضافة إلى مصاريف المحروقات وغيرها من الإصلاحات التي قد تطرأ».وفي ختام حديثه، ينوّه جبران قائلاً: «كنا نعتمد على المساعدات العينية، مثل حصولنا على مولدات من USAID، لكن تم منع هذا الأمر، فيما تقوم اليونيسف بإعادة هيكلة ميزانيتها. لذلك، تضاءلت هذه الإغاثات وتراجعت بشكل كبير».
المواطن يتحوّل إلى خبير مياه… والدولة تتفرّج
مع كل موجة جدب أو انقطاع، كان اللبناني يثبت مجددا قدرته على إيجاد الحلول بعيدا عن الدولة. ففي ظل غياب أي خطة إنقاذ حكومية، انتشرت مبادرات فردية غير رسمية، حيث علمت «اللواء» ان أحد المواطنين في منطقة المنصورية، قام بحفر بئرٍ ارتوازي ومدّ قساطل الى جيرانه، ليتحوّل بذلك إلى «دولةٍ مصغّرة» تؤمّن لهم المياه، في مقابل بدلٍ مالي يبلغ 50 دولارا شهريا، أو حسبما يسجله العدّاد.لكن هذه الحلول، رغم واقعيتها، ليست إلّا مسكّنا مؤقتا لمشكلةٍ أكبر. بحيث بدأ الحفر العشوائي للآبار يستنزف المخزون الجوفي، مما أدّى في بعض المناطق إلى تسرّب المياه المالحة إلى المياه العذبة، كما حدث في ساحل المتن وبعض قرى الجنوب. الدولة التي من المفترض أن تنظّم هذا القطاع، اختارت ان تغضّ الطرف تماما كما تفعل مع قطاع الكهرباء، مُفضّلةً ترك الناس ليواجهوا مصيرهم بأنفسهم.
الوعود الوهمية
انطلاقا من كل ما تقدّم، ومع دخول 2025، تبدو الأزمة أبعد ما تكون عن الحل. لا مشاريع استثمارية جديدة في قطاع المياه، ولا خطة واضحة لإعادة تشغيل المحطات بكامل طاقتها. التصريحات الرسمية تكرّر نفسها كأسطوانة مشروخة، فيما تذهب أموال الجباية، سواء بالدولار أو الليرة، الى حيث لا يعلم المواطن. لذلك، فان الحديث عن «تحسين التغذية» بات نكتةً سمجة، لا يضحك لها اللبنانيون بقدر ما يبتسمون بسخريةٍ مريرة، وكأنهم أمام مشهدٍ عبثي يُعاد مرارا منذ عقود.في المقابل، المواطن، الذي أنهكته الأزمات، لم يعد ينتظر شيئاً من دولةٍ أثبتت أنها تجيد جمع الأموال، لكنها تعجز عن ضخّ المياه. ومع كل يومٍ يمر، تتعزز القناعة بأن الحصول على المياه في لبنان لم يعد حقًا مضموناً، بل صار امتيازا لمن لديه «واسطة» او يستطيع الدفع، في سوقٍ تتحكم فيه الصهاريج، وأصحاب الآبار، وتجار الأزمة، بينما الدولة تواصل لعب دور المتفرّج.من هنا، لبنان، الذي كان يوما «بلد الأنهار والينابيع»، يتحوّل شيئا فشيئا إلى بلد العطش والقحط، وكأن الطبيعة قررت معاقبته على عقودٍ من سوء الإدارة والفساد. ويبقى السؤال الأكبر: هل يأتي يومٌ يعود فيه الماء حقا عاما، أم أن اللبناني سيظل محكوما بشراء «حياته» لتراً بعد لتر؟
أنين المواطنين
في مار إلياس في بيروت، تجلس أم حسن أمام خزان المياه الفارغ على سطح منزلها، تنظر إليه وكأنه رمزٌ للعجز الذي تعيشه يوميا. تقول بأسى: «لقد أصبحنا نشرب المياه وفقا للتقنين مثل الكهرباء، كل شيء في هذا البلد أصبح خاضعا للتقنين، حتى التنفس!» ثم تتابع: «لقد دفعت الاشتراك السنوي لمؤسسة المياه، ومع ذلك، لا تأتي المياه، فماذا يعني أن ندفع؟ حتى الصهاريج أصبحت أسعارها خيالية، ولا خيار أمامنا سوى الدفع، لأن لا شيء مضمون في هذا البلد، حتى المطر لم نعد نثق به».
فاتورة المياه أغلى من فاتورة الطعام!
أما في منطقة المطيلب، فيروي أبو فادي، وهو أب لثلاثة أطفال، كيف اضطر إلى تقليص نفقات أسرته لتغطية تكلفة المياه: «أكثر من نصف راتبي يذهب على مياه الشرب والغسيل. تخيّلوا أننا ندفع للمياه أكثر من دفعنا للطعام! نحن في بلد مليء بالأنهار والينابيع، لكننا عطشى، كيف يحدث هذا؟» يتنهد قبل أن يضيف: «أشعر وكأنني أعيش في الصحراء».
معادلة مستحيلة… إما الدفع أو القطع
وفي طرابلس، حيث الأوضاع الاقتصادية أكثر صعوبة، تحكي منى، وهي معلمة، عن معاناتها: «في السابق، كنا نسمع عن دول بعيدة حيث يعاني الناس للحصول على المياه، لكن اليوم أصبحنا نعيش نفس المأساة. إذا لم تمتلك المال لدفع ثمن الصهريج، ببساطة لن يكون لديك مياه. كأنك مضطر للدفع كي تتنفس. كيف يمكننا أن نعيش هكذا؟».
المياه في لبنان: رفاهية باهظة أم حق مسلوب؟
من المؤسف انه في بلدٍ يشتهر بثروته المائية، يتكرر المشهد ذاته: صهاريج المياه تجوب الأحياء، والخزانات فوق المنازل تنتظر رحمة الدولة التي تبقى وعودها فارغة كخزانات الناس. الجديد اليوم أن تعرفة المياه لعام 2025 قد زادت، رغم أن الخدمة أصبحت شبه معدومة في العديد من المناطق. فهل تتحوّل المياه إلى عبء إضافي على كاهل المواطن الذي بالكاد يستطيع تأمين قوت يومه؟
صحيح أن لبنان يعاني من شحّ كميات المتساقطات من الأمطار، وهو ما يتناقض مع صورته كدولة غنية بالموارد المائية، لكن لو كانت هناك خطط مدروسة واستباقية لمواجهة الأزمات المستجدة، وإذا كانت الدولة تمتلك الوعي الكافي بخطر هذه الأزمات، لما كان المواطن ليعاني من نقص حاد في المياه الأساسية مثل مياه الشرب. فالكثير من الأسر الفقيرة لم تعد قادرة على تحمّل تكاليف شراء الصهاريج، مما يزيد من معاناتها. ورغم أن مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان قد تكون قد وضعت خطة لمعالجة المشكلة، إلّا أن هذه الخطة قد تكون ناقصة ولا تلبّي احتياجات المجتمع بشكل كافٍ، حيث لا تأخذ في الحسبان الفئات غير القادرة على الشراء أو الظروف الاقتصادية الصعبة التي يواجهها المواطنون.
أزمة أكبر من مجرّد فاتورة
في النهاية قد لا تبدو مشكلة المياه في لبنان مجرّد مسألة تعرفة أو قلّة الأمطار، بل تعكس خللاً أعمق في إدارة الموارد والخدمات العامة. فكيف يمكن لدولة غنية بالمياه أن تعاني من أزمة عطش مزمنة؟ وهل يتحمّل المواطن وحده تكلفة الإهمال وسوء الإدارة؟بين وعودٍ رسمية لا تتحقق، وواقع يزداد سوءا، يبقى السؤال مفتوحا: هل ستصبح المياه في لبنان رفاهية لا يستطيع المواطن تحمّلها، أم أن الحلول الجذرية لا تزال مؤجّلة إلى إشعار آخر؟