فجأة، من خارج السياق طرح رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إعادة النازحين السوريين إلى بلادهم، ملوّحاً باللجوء إلى طرق «غير مستحبة» لدى الغرب الذي يمنع هذه العودة. التلويح الذي لا يرجّح أن «يقرّش» على الأرض، استنفر السفراء الغربيين في بيروت وممثلي المنظمات الدولية بحجة أن العودة غير آمنة حالياً، ما يبدو معه أن الفيتو على إعادة النازحين لا يزال مرفوعاً
فتح رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي كوّة في الجدار المسدود منذ سنوات في شأن عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، والذين يبلغ عددهم أكثر من مليون ونصف مليون (نازحون، مستثمرون، يد عاملة شرعيّة وغير شرعيّة)، بينهم 865 ألفاً مسجّلون رسمياً لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) بحسب إحصاءات تعود إلى عام 2020.
فجأة، أتى تصريح ميقاتي في 20 الشهر الماضي من خارج السياق، عندما رفع السقف داعياً المجتمع الدولي إلى «التعاون مع لبنان وإلا سيكون له موقف ليس مستحباً لدول الغرب وهو العمل على إخراج السوريين من لبنان بالطرق القانونية من خلال تطبيق القوانين اللبنانية بحزم».
هي لغة جديدة على «رئيس حكومة النأي بالنفس» التي سهّلت «الدخول الأوّل» للنازحين إلى الأراضي اللبنانية. وهذا يعني أن جديداً ما طرأ على هذا الملف الذي لم يصل يوماً إلى نهايته السعيدة. كانت المقاربة في كل مرة غير جديّة. ما كان يقوله فريق «14 آذار» في حينه لم يكن واقعياً، بل كان أقرب إلى الشعبوية. فعلياً لم يكن هؤلاء يريدون حلّ هذا الملف لاستفادة لبنان من المساعدات المالية المخصّصة للنازحين عبر الجمعيات والمنظمات الدولية، (تلقّى لبنان أكثر من 9 مليارات دولار مخصّصة للنازحين خلال السنوات السبع الأخيرة، فيما يتردّد أن المبالغ أكثر من ذلك)، إضافة إلى رضوخ المسؤولين اللبنانيين للضغوط الأميركية والأوروبية لعدم رفع مستوى التنسيق بين لبنان وسوريا وحصره باللجنة الأمنية. وكانت مصالح هذا الفريق تتقاطع دوماً مع الدول الغربيّة التي تُريد إبقاء الملف مفتوحاً ليكون ورقة ضغط على النظام السوري، وأبعد من ذلك كي يدخل في إطار «فزاعة التوطين».
في حينه، كان رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني طلال أرسلان مُكلّفاً من قبل القيادة السورية بمتابعة الملف. وفعلاً عمل الوزير السابق صالح الغريب على مدى أشهر لتحضير خطة مدروسة تُعيد السوريين إلى بلادهم، بعدما نال موافقة القيادة السورية التي «تعاطت مع الملف بجديّة وتعهّدت بتأمين أماكن إيواء عبر بناء منازل، وفي حال كانت أعداد العائدين تتطلّب مراكز إيواء أكثر، عرض المسؤولون السوريون إسكانهم في مدارس مجهّزة إلى حين بناء منازل خاصة بهم، إضافة إلى تقديم التسهيلات الأمنيّة ومن بينها إصدار عفو شامل»، على ما يقول الغريب لـ«الأخبار»، قبل أن يصطدم بعدم وجود إرادة جديّة لدى المسؤولين اللبنانيين لمعالجة الملف. بل إن الرئيس سعد الحريري رفض في حينه إدراج بند النازحين على جدول أعمال مجلس الوزراء لعدم استفزاز دول الغرب، متمسّكاً بأن يكون التنسيق بين الدولتين بطريقة غير رسمية أو عبر اللجنة الأمنية التي لن يكون بإمكانها الدخول في كثير من التفاصيل.
إحياء اللجنة الوزارية
اليوم، عادت القضيّة إلى الواجهة «على يد» ميقاتي الذي قرّر إحياء اللجنة الوزارية المؤلفة من 7 وزراء لمتابعة إعادة النازحين السوريين إلى بلدهم بأمان بموجب قرار مجلس الوزراء الصادر في أيلول 2021. البعض يشير إلى أن الرجل كان يريد ابتزاز حزب الله وتقديم نفسه على أنه القادر على إنهاء الملف على عتبة تكليفه برئاسة حكومة «صعبة المنال»، فيما يؤكد آخرون أن ميقاتي عكس واقعاً حقيقياً بانعدام قدرة لبنان على تحمّل الأعباء المالية للنازحين بسبب أزمته الاقتصادية والنقدية وصعوبة تأمين الكهرباء والمياه، في ظل ما يُحكى عن تكبّد لبنان 30 مليار دولار على مدى 11 سنة كلفة للنزوح السوري. في حين يتفق الطرفان أن ميقاتي، رغم ترؤسه اللجنة الوزارية المكلفة بموضوع النازحين قبل يومين وإعطائه وزير المهجرين المكلّف بمتابعة هذا الملف التفويض الرسمي باسم اللجنة للتنسيق مع الجانب السوري، لن يكون بمقدوره أن يخطو خطوةً جديّة واحدة على طريق الحل لعدم إثارة غضب الأميركيين والأوروبيين. أول المؤشرات على ذلك، بحسب متابعين، هو «تطيير» ميقاتي وزير المهجّرين الحالي عصام شرف الدين من التشكيلة التي قدّمها إلى رئيس الجمهورية مستبدلاً إيّاه بالنائب سجيع عطيّة الذي يُمكنه أن «يمون عليه».
رفضت «UNHCR» مواصلة تقديماتها المالية والعينية للنازحين في حال عودتهم إلى الداخل السوري
ويؤكد المتابعون أن إثارة هذا الموضوع من دون تسليم لبناني بأن الحل يكون عبر التنسيق الرسمي بين الدولتين والتعاطي بين الحكومتين عبر الأطر الرسمية «تبقى في إطار الحديث السياسي والشعبوي من دون أي نتيجة على أرض الواقع».
وبالتالي، فإن من المستبعد أن يترجم ميقاتي أقواله إلى أفعال في غياب رغبة دولية في إنهاء هذا الملف، وهو ما قاله وزير الخارجية عبدالله بو حبيب وما ظهر من «اجتياح» الدبلوماسية الغربيّة والمنظمات الدولية لمراكز الوزارات المتابعة للملف بغية ثنيها عن المضي في هذا الملف، بحجة أن العودة غير آمنة وأن لا مساكن إيواء وبنى تحتيّة في سوريا يمكن أن تستوعب الأعداد العائدة.
الغرب غير راغب
كما انعكست عدم الرغبة الدولية بعودة النازحين إلى بلادهم حينما رفضت «UNHCR» تقديم يد العون إلى لبنان، بتأكيد ممثلها في لبنان أياكي إيتو خلال اجتماعه بشرف الدين أن المفوّضية لن تعلّق تقديماتها المالية والعينية للنازحين إلى لبنان، ولن تعمل على تسديدها في حال انتقل هؤلاء إلى الداخل السوري بذريعة أن الدول المانحة ترفض ذلك. إيتو اقترح تشكيل لجنة ثلاثية (لبنانية- سورية – ممثل عن المفوضية) لمناقشة التفاصيل قبل أن يتراجع عن الاقتراح بذريعة أن الأمر تقرره الإدارة المركزية للمفوضية.
كلّ ذلك يرجّح الفرضية التي يؤمن بها المسؤولون اللبنانيون بأن الرغبة الدولية هي فعلياً بإبقاء النازحين في لبنان. وهذا ما يؤكده النائب السابق نوار الساحلي المُكلّف بمتابعة الملف من قبل حزب الله، إذ يشدّد على أنه لا يرى أن هناك رغبة دولية بإنهاء هذا الملف، رغم أنّ «الأوضاع الاقتصادية باتت صعبة جداً، ولا يمكن للبنان أن يتحمل عبئاً إضافياً بوجود نازحين تُقدّر أعدادهم بنحو ثلث عدد اللبنانيين الموجودين على الأراضي اللبنانية».
في المقابل، يبدو شرف الدين متفائلاً بإمكانيّة وصول الملف إلى خواتيمه، ولو أنه يدرك أن «الموضوع هو سياسي بامتياز ويفرمله وكلاء الغرب في الداخل». يستند الرجل إلى التفويض الرسمي الذي أعطته إياه اللجنة الوزاريّة بالإجماع، بالإضافة إلى كلام ميقاتي وتوحيد مواقف الدول المستضيفة للنازحين (العراق والأردن وتركيا) التي التقى سفراءها. ويوضح أنه توجّه إلى سوريا منذ شهرين والتقى بوزير الإدارة المحلية والبيئية حسين مخلوف، على أن يعود إلى سوريا الأسبوع المقبل لمناقشة تفاصيل خطته التي تقضي بإعادتهم إلى مناطقهم بعد ترميم المنازل أو إنشاء مراكز إيواء جديدة على أن يتم ترحيل 10 إلى 15 ألفاً شهرياً، مستنداً إلى تقرير الخلية الأمنية المركزية التابعة لوزارة الداخلية والبلديات الذي قسّم النازحين حسب أماكن انتشارهم ومساقط رؤوسهم والأسباب التي فرضت عليهم النزوح، والذي بيّن أن النسبة الكبرى من هؤلاء نزحت خوفاً على حياتها وليس لأسبابٍ سياسية.
ويؤكد شرف الدين أن ميقاتي عرض خلال اجتماع اللجنة الوزارية إمكانية التشدّد في تطبيق الأنظمة كمبدأ الحصول على الإقامة للسوريين وإجازة عمل للمهن الحرة، بالإضافة إلى تطبيق قانون تنظيم الدخول إلى لبنان والإقامة فيه الصادر عام 1968والذي ينص على «صلاحية المدير العام للأمن العام بإصدار قرارات بترحيل الأجانب في حالات استثنائية حيث يشكّل الأجنبي خطراً على السلامة العامة والأمن العام».
في المقابل، يتريّث وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة تصريف الأعمال هيكتور حجّار في إبداء الموقف، ويوضح لـ«الأخبار» أنه ينتظر ما سيحمله شرف الدين من سوريا. ويقول: «يجب أن تتّسم المفاوضات بالسرية بين الدولتين كي لا تكون إعلامية وتدخل إلى الزواريب السياسية الضيقة على أن تقوم سوريا بإرسال ورقة موقّعة لطلباتها حتى يُبنى على الشيء مقتضاه».
في المحصّلة، ستكثر الزيارات قريباً إلى سوريا ومعها الوفود الدبلوماسية والمنظمات الأجنبيّة إلى المسؤولين اللبنانيين لـ«الدفش» باتجاه عدم إعادة النازحين إلى بلادهم. كباشٌ حقيقي ستحدّده الحكومة اللبنانية التي ستثبت صمودها أمام الضغوط الغربيّة من عدمه.
دمشق: هذه هي تسهيلات «العودة الآمنة»
يؤكد السفير السوري علي عبد الكريم علي أن بلاده جديّة في التعاون مع الجانب اللبناني شرط أن تكون هذه المفاوضات رسمية ومن دولة إلى دولة، بهدف إعادة السوريين إلى بلادهم «لأننا نعي أن هذا الأمر فوق طاقة تحمّل لبنان»، لافتاً إلى أن بعض القوى اللبنانية تتأثر بالضغوط الخارجية وتحاول منع إقامة العلاقات الرفيعة المستوى بين البلدين. لكنه يلمس في المقابل وجود رغبة لدى الكثيرين في تعاون جديّ بين الطرفين وتنسيق غير موارب.
ويشدّد في حديثه لـ«الأخبار» على أن الكلام بأن الأمن السوري سيلاحق النازحين «كلام غير مسؤول»، وأكبر دليل على ذلك هو واقع النازحين الذين عادوا إلى ديارهم ولم يتم توقيف حتى من حمل السلاح في وجه النظام، بل اكتفي بتوقيف من في حقه دعاوى مدنية وجنائية ولا سيّما الذين ثبتت عليهم جرائم القتل».
هذا الحديث أيضاً سمعه وزير المهجرين في حكومة تصريف الأعمال في سوريا، بعد أن تعهّدت الحكومة السورية بتنفيذ بعض النقاط لتسهيل عودة النازحين، بالإضافة إلى نقاط سبق أن فعّلتها مثل: إصدار مراسيم العفو، تأجيل خدمة العلم للعائدين لمدة 6 أشهر، استخراج الوثائق المفقودة لمن فقدها في دول اللجوء، تسجيل الولادات الجديدة في سوريا، توفير خدمات النقل، خدمات الطبابة، دعم العائدين بمشاريع لتأمين سبل عيش كريم، منح البطاقتين الشخصية والأسرية لمستحقيهما، معالجة مشاكل المهجّرين المغادرين بشكل غير شرعي وتسوية أوضاعهم في إدارة الهجرة والجوازات أو فروعها في المحافظات، تأمين مراكز إيواء جماعي منذ عام 2017، ترميم آلاف المدارس، إعادة المؤسسات والخدمات وتأهيل البنى التحتية، إنشاء وتأهيل الطرقات، تأهيل مراكز صحية ومبانٍ حكومية، تأهيل شبكات مياه الشرب، تقديم التعويضات للمنازل المتضررة وتأهيل المتضررة بشكلٍ جزئي، توزيع سلّة إيواء بالتعاون مع المنظمات الأممية والدولية، إزالة الأنقاض والنفايات المتراكمة في المناطق، تأهيل مراكز تحويل الكهرباء وإعادة تفعيل الشبكات، تأهيل المحطّات المتضرّرة وإنشاء محطات كهربائية جديدة مع التركيز على الطاقات المتجدّدة كحل مستدام للطاقة.