شارل جبور – نداء الوطن
اعتقدت إسرائيل أن استنجاد “حزب اللّه” بدول العالم في خريف عام 2024، وتحديدًا خلال المواجهة الواسعة التي اندلعت في أيلول، يعني أنه اتخذ هذه المرّة، خلافًا للمرّات السابقة، قرارًا نهائيًا بفك بنيته العسكرية وتسليم سلاحه إلى الدولة اللبنانية. فبالنسبة إلى إسرائيل، لم يكن “الحزب” ليطلب تدخل القوى الكبرى لوقف الحرب لو لم يكن قد وصل إلى قناعة بأن زمن “المقاومة المسلّحة” انتهى، خصوصًا بعد اغتيال أمينه العام التاريخي وخليفته وقيادة الصف الأوّل، فضلًا عن أن الظروف الداخلية والخارجية لم تعد تسمح له بالبقاء في وضعه العسكري القديم، فشريانه السوري الحيوي قُطع وأصبح محاصرًا جغرافيًا.
كما افترضت إسرائيل أن الدولة اللبنانية أصبحت، بعد الضربة العسكرية الكبرى التي تلقاها “حزب اللّه”، في موقع يمكّنها من بسط سيطرتها على كامل أراضيها واحتكار السلاح. وهذا ما شجّعها على إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الأول 2024 على أساس واضح، يقضي بتفكيك البنية العسكرية لـ “الحزب”، وتسليم سلاحه للدولة، وتمكين الدولة اللبنانية من منع “الحزب” وغيره من استخدام الأراضي اللبنانية كمنصّات إقليميّة.
لكن إسرائيل اكتشفت لاحقًا أنها بنت توقعاتها على فرضيات خاطئة. فاستنجاد “الحزب” بالمجتمع الدولي لم يكن لإنهاء دوره العسكري، بل لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الصفوف. وتبيّن لإسرائيل أن “الحزب” لم يطلب وقف الحرب ليستسلم، بل ليمنع الانهيار الكامل ويستعيد المبادرة في الوقت المناسب. أما إيران، الداعم المباشر لذراعها في لبنان، فاعتبرت الهدنة فرصة لإعادة التموضع، لا مقدمة لتسليم السلاح. والدولة اللبنانية من جهتها لم تتجاوز حدود الموقف السياسي، إذ اكتفت بالمطالبة النظرية دون الذهاب إلى التطبيق العملي.
إزاء هذا الواقع، تعاملت إسرائيل مع الوضع ضمن حدّين واضحين:الحدّ الأدنى، عدم تنفيذ ما يترتب عليها قبل التثبُّت من إنهاء الجناح العسكري لـ “الحزب”. فلم تنسحب من النقاط التي تتمركز فيها، ورفضت إطلاق الأسرى، ومنعت إعادة الإعمار، وأبقت استهدافاتها قائمة لمنع “الحزب” من إعادة بناء قدراته أو تثبيت مواقع جديدة.الحدّ الأقصى، التحضير، وفق توقيتها، لحرب جديدة تعدّها هذه المرة حربًا حاسمة، تُنهي ما تبقى من قدرات “الحزب”، وتمكّن الدولة اللبنانية، للمرة الأولى منذ عقود، من بسط سيطرتها الكاملة على أرضها.
وهكذا، أصبحت الحرب حتميّة، ودخلت عمليًا أسابيعها الأخيرة. فمن يتابع الاتجاه الإسرائيلي، يلاحظ أن إسرائيل لن تنهي هذا الفصل قبل القضاء على أذرع إيران في لبنان وسوريا، تمهيدًا لمرحلة جديدة من المواجهة مع إيران نفسها. ولن تطمئن إسرائيل إلى حدودها الشمالية قبل إنهاء كل ما تعتبره تهديدًا وجوديًا لها.
وفي المقابل، يراهن “حزب اللّه” على تبدّلات داخل إسرائيل، وعلى احتمال سقوط نتنياهو أو تغيّر السلطة. ويراهن أيضًا على أن الوقت قد يخدمه. غير أن الوقائع تشير إلى أن الزمن، هذه المرّة، يعمل ضده، خصوصًا في ظلّ الثنائية الحاكمة اليوم: ترامب ونتنياهو، وهي ثنائية يعتبرها “الحزب” قاتلة له سياسيًا واستراتيجيًا. وبالتالي، فإن كلّ رهاناته ساقطة، ولا تستند إلى معطيات حقيقية، بل إلى مجرّد أوهام.
أمّا داخل لبنان، فتحاول الدولة عبر اتصالاتها الدبلوماسية تأجيل الضربة إلى مطلع العام الجديد، مراعاةً لفترة الأعياد، ومحاولةً للحدّ من الأضرار عبر حصر العمليات بالأهداف العسكرية وتجنب المناطق المدنية قدر الإمكان. فالضربة قائمة ولا مهرب منها، غير أن السؤال الحقيقي اليوم لم يعد: هل ستقع الضربة؟ ولا حتى: متى ستقع؟
بل: ماذا بعد الضربة؟ كيف سيتشكّل المشهد السياسي اللبناني بعد الانهيار الكامل للبنية العسكرية لـ “حزب الله”؟ وكيف ستتعامل الدولة مع ميزان القوى الجديد؟ وهل ستكتفي باحتكار السلاح وبسط سلطتها، أم ستفتح الباب أمام إعادة تكوين الدولة العميقة عبر استبدال “شيعة إيران” بـ “الشيعة اللبنانيين الأحرار” لبناء دولة لبنانية فعلية، وما لم تقدم على هذه الخطوة يعني مواصلة الدوران في الحلقة المفرغة نفسها؟
إن الضربة الحتمية ستغيّر حتمًا ميزان القوى الداخلي، وستنهي مرحلة طويلة طبعت الحياة السياسية اللبنانية. لكن الأساس يبقى في كيفية إدارة اليوم التالي، خصوصًا أن إدارة اليوم التالي للحرب الأولى في أيلول 2024، والتي انتهت في 27 تشرين الثاني، لم تكن موفقة، وأبقت لبنان في دائرة الفشل. فهل سيكون المشهد مختلفًا هذه المرة باتجاه الحزم لبناء الدولة الحقيقية، أم سيعاد إنتاج الأزمة بأشكال جديدة ولو أن سلاح “الحزب” يكون قد انتهى إلى غير رجعة؟هذا هو التحدّي المركزي، وهذه هي معركة لبنان الفعلية بعد الضربة، ولا يجب التلهّي إطلاقًا بالسؤال عما إذا كانت الحرب ستقع، بل يجب أن يتركّز كلّ الجهد على اليوم التالي لها، ليكون فرصة للاستفادة من المومنتم الجديد لبناء دولة تشكّل وحدها الضمانة لجميع اللبنانيين، بدل الاستمرار في إضاعة الفرص وهدرها.


