غادر الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف – لودريان بيروت، بعد «حج سياسي مبرور وسعي مشكور»، لمساعدة اللبنانيين على انتخاب رئيس للجمهورية، لكنه لم يرجم «الشيطان» الذي يدخل في تفاصيل السياسة اللبنانية، التي هي عبارة عن غنائم ومكاسب ومحاصصة وتكريس للطائفية، التي هي بلاء لبنان وسرطانه القاتل.
فلم يترك لودريان وراءه اقتراحات ليدرسها مَن التقاهم، ولم يلمح الى اسماء مرشحين او رفضهم، بل كل ما فعله انه اعاد برنامجا اذاعيا كان يبث من «اذاعة لبنان الرسمية»، واسمه «ما يطلبه المستمعون»، اذ كل فريق سياسي طلب اغنية لكن لم تقدم له، مع غياب كامل لفرقة «اللجنة الخماسية» المكونة من اميركا وفرنسا والسعودية ومصر وقطر، حيث لا يوجد «مايسترو» يدير هذه الفرقة ،التي يعزف كل من فيها على آلته التي تناسب مصالحه في اغنيته السياسية.
فالازمة الرئاسية التي هي شأن لبناني، وكل من يتعاطى معها يدعو القوى السياسية والكتل النيابية ان يكون حلها لبنانيا، وهو لم يحصل قبل الشغور الرئاسي وبعده، مما زاد من تعقيد حلها، حيث اضيف الى عقدة الحل اللبناني عدم وجود موقف دولي – اقليمي موحد من الاستحقاق الرئاسي ، خصوصا ان الازمة اللبنانية عموما، وفق قراءة مصدر سياسي مطلع على الحراك الخارجي الذي يصفه بـ «المكربج» ايضا، وليس الداخل اللبناني فقط، حيث يتكل الخارج الدولي – الاقليمي على الداخل اللبناني، لانضاج الطبخة الرئاسية التي وضعت على النار منذ ايلول الماضي وقبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، وهي باقية على النار بعد ثمانية اشهر على الشغور الرئاسي. ولكن يبدو ان الطباخين ارادوها على نار هادئة، وهذا ما يكشف أن الاتفاق السعودي – الايراني برعاية الصين لم يرفع درجة حرارة النار تحت الطبخة، اذ لديه طبختان يجب ان يختمرا وهما اليمن وسوريا.
وتظهر الانتخابات الرئاسية بأنها ازمة بين قوى سياسية لبنانية، حيث انعقدت لها 12 جلسة ولم تسفر عن انتخاب رئيس للجمهورية، لان موازين القوى التي ظهرت في جلسة 14 حزيران تكشف أن كلا الطرفين اللذين رشحا سليمان فرنجية وجهاد ازعور، لم يتمكنا من الوصول الى النصف زائدا واحدا (65 صوتا)، وهذا ما سيتكرر في جلسات اخرى، حيث يكشف المصدر عن ان رئاسة الجمهورية اللبنانية هي موضع متابعة خارجية، ولكنها ليست على جدول اعمال الدول، وهذا ما ظهر في القمة الفرنسية – السعودية بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، اذ ورد لبنان في سطر واحد بالبيان الختامي، وكذلك في القمة العربية في جده، كما في القمم الصينية التي عقدت في كانون الاول الماضي مع السعودية ومجلس التعاون الخليجي والدول العربية، وايضاً في القمة السورية ـ السعودية بين الرئيس بشار الاسد ومحمد بن سلمان، والسورية ـ الاماراتية مع محمد بن زايد، والى قمم واجتماعات ولقاءات عربية واقليمية ودولية.
من هنا، لا يبدو ان الملف الرئاســي اللبناني سيتم إغلاقه بانتــخاب رئيس للجمهورية في الاسابيع او الاشــهر المقبلة، حيث يتم التداول في اوساط سياسية عن ان الاستحقاق الرئاسي قد يطول حتى الانتخــابات النيابية في العام 2026، وتحدث عن ذلك رئيس «تيار الكرامة» النائب فيصل كرامي، وهذا ما دفع بنائب رئيــس مجلس النواب الياس بوصعب، الى اقتراح اجراء انتخابات نيابية مبكرة، كمخرج حل للأزمة تلجأ اليه دول.
فالصيف الرئاسي في لبنان، سيبدأ دون شعار «اهلا بهالطلة» لرئيس جمهورية جديد، وفق المعطيات المرافقة لهذا الاستحقاق الدستوري. وقد اعتاد اللبنانيون، ان يتساكنوا مع «شغور رئاسي»، وحكومات تصريف اعمال، وتعطل اعمال المؤسسات، اذ عاشوا في فترات الحرب الاهلية، مع ميليشيات و»كانتونات»، وادارات مدنية وذاتية ، والوية جيش مشتتة، وحكومتين عسكرية برئاسة العماد ميشال عون، واخرى مدنية كانت قائمة واستمرت بالامر الواقع برئاسة سليم الحص، وصراعات عسكرية بين «الاخوة ـ الاعداء».
فمثل هذا المشهد الدستوري والسياسي والتقسيمي، مع اقتتال داخلي، وهبوط لســـعر صرف الليرة، وانتشار المهجرين وتوسيع رقعة المهاجرين، وهذا ما عاشه اللبنانيون في اسوأ سنين عمرهم، لا سيما من عاشوا الحروب الداخلية واخرى الخارجية، كالغزوين الصهيونيين عامي 1978 و1982، والمقاومة التي قامت ضد الاحتلال الاسرائيلي، فان لبنان مستمر في ازمته المولودة من رحم ازمة الكيان والنظام، وان الاتفاقات التي حصلت، للخروج من اسبابها ومآسيها وعدم تكرارها لم تنجح، كما في تطبيق اتفاق الطائف وبعده اتفاق الدوحة، ثم التسوية الرئاسية، وقبل ذلك الحوارات الداخلية. فان المبادرات الخارجية، تتحرك ولكنها لم توضع على سكة الحل، لان اطراف «اللجنة الخماسية» متناقضون حول آلية الحل، واللبنانيون يجادلون على «جنس الملائكة».