خلال زيارته السريعة الى بيروت، ألمحَ المفاوض الاميركي آموس هوكشتاين الى وجوب إنجاز اتفاق الترسيم سريعاً لأن حكومة برئاسة بنيامين نتنياهو قد لا توافق على السير بالاتفاق.
البعض أخذ كلام هوكشتاين على انه اشارة واضحة بأن حكومة يائير لابيد جادة بإنجاز الاتفاق قبل حلول موعد الانتخابات الاسرائيلية في اول تشرين الثاني المقبل.
لكن هوكشتاين صاحب الخبرة الكبيرة في فنون التفاوض، والذي اخذ وقته قبل العودة الى بيروت في زيارة الساعتين ونصف الساعة، لا بد من قراءة كلامه بطريقة مختلفة واكثر عمقاً فهو يدرك انّ كلامه داخل الاجتماعات المغلقة سيصبح مباحاً للاعلام بعد ساعات معدودة من رحيله. فالمعروف عن لبنان انه لا توجد اسرار فيه، وبالتالي فهو لا يريد ان يبدو كمن يتدخّل في الانتخابات الاسرائيلية، وهذا قرار حاسم من الادارة الاميركية التي تنأى بنفسها ولو ظاهرياً عن الانتخابات الاسرائيلية.
لكنّ كلام هوكشتين يحمل في ضمنه ربطاً بين تأخير الترسيم البحري والانتخابات الاسرائيلية واحتمال توظيف نتنياهو لها في حملاته الانتخابية. لذلك حمل معه طلباً جديداً حول منطقة بحرية فاصلة بعرض خمسة كلم لأسباب امنية كما قال، ولكن من دون المسّ بجوهر التفاهم الذي حصل. هو اراد ان يقول ضمناً بأنه بحاجة لبعض الوقت والذي يجري ملؤه بطروحات جديدة.
ووفق صحيفة «معاريف» الاسرائيلية نقلاً عن مصادر امنية وسياسية، فإن استخراج الغاز من حقل كاريش لا يمكن ان يبدأ في الشهر الحالي، بل في منتصف الشهر المقبل او آخره، كما ورد في الصحيفة، وهو ما يعني الوصول الى موعد الانتخابات الاسرائيلية.
هي الانتخابات الاسرائيلية «المحشورة» جدا التي فرملت مشاريع تعتبر غير شعبية اسرائيلياً وسيكون نتنياهو قادراً على توظيفها انتخابياً لصالحه، كمثل الترسيم البحري مع لبنان والاتفاق النووي مع ايران. واللافت ان لكل من الملفين اعذاره في التأجيل.
تكفي الاشارة الى ان نتائج آخر الاستطلاعات أعطت تحالف الليكود مع الاحزاب اليمينية 59 مقعداً من اصل 120 في الكنيست، ما يعني ان التنافس هو على مقعد او مقعدين. وخلال الزيارات الاخيرة للمسؤولين الاسرائيليين الى واشنطن جرى طرح ثلاث نقاط اساسية يريدها الائتلاف الحكومي من ادارة بايدن.
1 – تأجيل الصفقة النووية.
2 – التأكد من استمرار العقوبات على الحرس الثوري الايراني.
3 – منع الوكالة الدولية للطاقة الذرية من اغلاق التحقيقات ضد ايران.
اذاً، ثمة حاجة اسرائيلية واميركية لاجتياز مطلع تشرين الثاني المقبل، للعودة بعدها الى المسار المرسوم. بدليل انّ ايران، والتي عمدت خلال المرحلة الاخيرة الى زيادة استخراجها النفطي تدريجاً لتكون جاهزة للتصدير لحظة توقيع الاتفاق النووي، عملت على تجهيز ناقلات محملة بما يزيد عن 70 مليون برميل لتدخل الاسواق في اليوم الاول لإعلان رفع العقوبات، ما سيؤدي الى هبوط في اسعار النفط.
وواشنطن تنتظر ومعها اوروبا ان تعمد ايران صاحبة رابع اكبر احتياطي نفطي في العالم الى تصدير اكثر من مليوني برميل من النفط الخام يومياً. مع الاشارة الى ان مجموعة اوبك بزعامة السعودية تُنتج زهاء 2,7 مليون برميل يومياً في المرحلة الحالية.
واستطراداً، فإنّ المرحلة التي تسبق موعد الانتخابات الاسرائيلية هي مرحلة مراوحة وعلى لبنان ان ينتظر شهر تشرين الثاني، على ان يعمد الى ملء الوقت الضائع بحركة ومشاورات. لكن المشكلة اللبنانية ان شهر تشرين الثاني يؤشر الى توقيت سياسي لبناني داخلي مختلف. فلا حاجة للتكرار بأن الاستحقاق الرئاسي لن يحصل خلال الفترة الدستورية ما يعني بأن الشغور الرئاسي، والذي يبدأ مطلع تشرين الثاني المقبل، سيدخل لبنان في مسار مختلف.
ولا حاجة ايضا للاشارة الى العوائق والحسابات الشخصية التي تقف حائلاً امام ولادة حكومة جديدة، ما يجعل التعويل على اعادة اعطاء الثقة للحكومة الحالية في النصف الثاني من تشرين الاول المقبل، مسألة غير مضمونة.
فلا رئيس الجمهورية بوارد القبول بحكومة لا تلحظ اضافة ستة وزراء دولة من السياسيين، ولا الرئيس ميقاتي في وارد القبول بهذه الصيغة التي ستمنح النائب جبران باسيل الثلث المعطل، وبالتالي مشاركته في التحكم بالحكومة.
وحسابات الطرفين ترتكز على الحسابات الرئاسية خلال مرحلة الشغور الرئاسي. لكن «الحرب» بينهما لن تتراجع مع انتهاء عهد الرئيس عون، لا بل على العكس فهي ستشتد لتطال النصوص الدستورية، وهي ستعطي باسيل مادة لاستعادة خطاب «التغييب» المسيحي عن السلطة والتشكيك بشرعية القرارات التي ستصدر.
وهذا يعني انّ هناك تكراراً منقّحاً لمرحلة 1988-1990، ففي بداية تشرين الثاني سيعلن عدد من الوزراء تجميد عملهم. وقد اصبح مضموناً قيام ثلاثة وزراء على الاقل حتى الآن بهذه الخطوة. وممكن لهذا العدد ان يرتفع لاحقاً.
في المقابل سيعمد ميقاتي الى اصدار مراسيم تحمل توقيعه وتوقيع وزير المال والوزير المعني، وهو ما سيشعل الصراع الدستوري اكثر. لكن التجارب السابقة ولا سيما خلال حكومة الرئيس فؤاد السنيورة تؤشر الى ان هذه المراسيم ستكون نافذة، خصوصاً ان الاتجاه هو للبدء بمعالجة ازمة الكهرباء من خلال تعيين اعضاء الهيئة الناظمة وفتح الابواب امام الغاز المصري وكهرباء الاردن. والاهم من كل ذلك التوقيع على ترسيم الحدود البحرية.
هذه الملفات الحيوية التي ترهق الناس سيواكبها جدل دستوري حاد وتراشق سياسي عنيف يراهن الرئيس ميقاتي على انه لن يؤثر عليه، ويعتقد باسيل انه سيكون كفيلاً بإعادة تجديد «حضور» تياره في الشارع المسيحي من خلال استخدام خطاب «مسيحي».
لكن المشكلة هي في الواقع النقدي الذي سيزداد تدهوراً، مع استمرار النزف فيما تبقى من احتياطي إلزامي موجود لديه، وباب القلق انّ هنالك من بدأ بالتفكير جدياً في بيع الذهب الموجود لدى مصرف لبنان، لتأمين المستلزمات المُلحة.
لكن هذا الصراع الحاد فوق ركام مؤسسات الدولة اللبنانية، قد يشكل ستاراً حاجباً لتفاهمات ستدور في الكواليس وتشكل مدخلاً لتسوية سياسية يكون احد اطرافها «حزب الله». والاجتماع الفرنسي – السعودي في باريس يشكل بداية خطوة في هذا الاتجاه، وينبئ باستعادة السعودية لدورها بعد فترة انكفاء، لاستعادة التوازن الاقليمي في لبنان، واعادة بناء الحضور السني، والمشاركة في رعاية الاستحقاق الرئاسي طالما ان السعودية ستتولى مهمة انتشال الاقصاد اللبناني لاحقاً. وهو ما يعني ان التسوية السياسية لن تمس الهيكل الاساسي لاتفاق الطائف. لكن المشكلة وجود تخوّف جدي لدى فرقاء سياسيين اساسيين من ان تطول فترة الشغور الرئاسي عدّة سنوات. صحيح انّ إقرار الاتفاق النووي قادر على تأمين مظلة اقليمية مساعدة، لكنه يبقى غير كافٍ بوجود تشتّت على مستوى المجلس النيابي. فالخارطة النيابية مبعثرة، وهي قادرة على الرفض او المنع وليس على الانتاج واتخاذ القرارات، وهو ما يعني ان المجلس النيابي قد يكون بحاجة لقوة «قاهرة» تدفعه لأن يكون قوة ايجابية وليس فقط قوة سلبية، ومن المعروف أنّ هناك مسلكين لذلك.
المسلك الاول وله علاقة باستمرار الانهيارات المالية الحياتية وسوء الاوضاع، ما سيشكّل قوة ضغط كبيرة على «التشتت» النيابي والكتل المشاكسة والمتناحرة.
وعلى سبيل المثال، في آخر استطلاع لمؤسسة الباروميتر العربي، بَدا انّ نسبة الساعين للهجرة للذين ما يزالون في لبنان حتى الآن، تبلغ 38 % والاهم انّ 60 % من هؤلاء من الشريحة العمرية ما بين 18 و29 سنة و48 % منهم من حملة الشهادات الجامعية و85 % منهم يريدون الهجرة لأسباب اقتصادية و13 % فقط لأسباب امنية.
ما يعني انّ النزيف الذي يطال الشباب المثقف والنخبوي سيستمر بالارتفاع وسيفرغ لبنان من طاقاته الشبابية، وهي علامة موت الاوطان. امّا المسلك الثاني فسيكون على طريقة آخر الدوار الكَي. وهو يقضي بحل المجلس النيابي والذهاب الى انتخابات جديدة تنتج هذه المرة طبقة سياسية جديدة واكثر مسؤولية، هذا في حال طال الشغور الرئاسي كثيراً. وهذا الاحتمال قد يبدو مفاجئاً وصادماً للبعض، لكن بدأ طرحه ولو على نطاق ضيّق وبشكل اولي في الدوائر الجدية الضيقة.