في العام 2024، ارتفع ستار المأساة عن مشاهد مؤلمة كان أبطالها نساء قُتلن على يد أزواجهن أو شركائهن أو حتى أفراد عائلاتهن، حيث رصدت صحيفة «اللواء» نحو 26 جريمة قتل خلال العام الفائت وحده. هذه الجرائم ليست مجرد أرقام في سجلات الموت، بل هي ندوب غائرة في وجه مجتمع يبدو أنه ينهار تحت ثقل صراعاته الداخلية.في المقابل، حين تتحوّل العلاقة الأسرية من واحة أمان إلى ساحة معركة، يصبح المنزل الذي يُفترض أن يكون ملاذاً للعاطفة مأساة متجسّدة. تكشف هذه الوقائع عن فجوة عميقة بين قشور التعايش الظاهري وأعماق الغليان النفسي، حيث تتناثر شظايا الكراهية والانفجار العاطفي في أبشع صورها. في مشهد لا يشبه إلّا مسرحية مأسوية، تتعدد الأدوار وتتكرر المآسي، لكن الضحية غالباً واحدة: المرأة، تلك التي كانت يوما رمز الحياة أصبحت اليوم وجه الموت المتكرر.
ومن هنا، يتساءل الكثيرون عن جذور هذه الكارثة: هل هي ثقافة العنف التي تتسلل إلى النفوس مثل سُمّ صامت؟ أم أنها انهيار القيم الأسرية أمام ضربات الواقع الاقتصادي والاجتماعي؟ أم تراكمات نفسية تفيض كبركان مدمّر؟ الأسئلة كثيرة، والإجابات متشعبة، لكن النتيجة واحدة: ظاهرة تتسع رقعتها وتحفر أخاديدها في ضمير المجتمع.في ضوء ما تقدّم، هذه الجرائم لا تكتفي بسلب الأرواح، بل تحمل معها رسائل دامغة عن أزمة قِيَم وخللٍ في منظومة الحماية الاجتماعية، حيث تبدو المرأة وكأنها تقف على حافة هاوية مجهولة، بين مطرقة العنف وسندان الإهمال القانوني والاجتماعي. فهل ننتظر جريمة جديدة لنفكر في حلول، أم أن المجتمع سيستفيق أخيراً من سباته المميت؟
المحاكم تتحوّل إلى مكان «خطر»؟
في سابقة لا مثيل لها، يتكشف وجه جديد من العنف الأسري الذي يطارد المجتمع اللبناني، وهذه المرة داخل أروقة محكمة شحيم الشرعية. كانت عبير رحال، الإعلامية والأم لثلاثة أطفال، محور مأساة انتهت بقتلها على يد زوجها خليل مسعود، في جريمة تحمل عناصرها طابع الدراما المفجعة، لكنها في جوهرها تعكس أزمة اجتماعية وأمنية عميقة.
الشرائط المصورة مرآة مشوّهة للواقع؟
في سياق متصل بالجريمة، نشر مسعود، قبيل تنفيذ فعلته، مقطع فيديو بلغ حوالي 22 دقيقة، وثّق فيه روايته الشخصية لخلافاته مع الزوجة المغدورة. ألقى فيها اتهامات بالخيانة والزيف، بدت وكأنها محاولة منه لتبرير العنف القادم، أو ربما صرخة أخيرة تحمل طياتها اضطرابا نفسيا غارقاً في التناقض. ومع ذلك، سارعت عائلة الضحية إلى نفي هذه الادّعاءات، معتبرة أنها مجرد تشويه متعمّد لحقيقة عبير، التي لطالما حاولت الحفاظ على أسرتها رغم قسوة الظروف.
جريمة أم سيناريو دراماتيكي؟
في لحظات ظهرت وكأنها مقتطفات من رواية سوداء، دخل مسعود المحكمة صباح الخميس الماضي، مخفيا تحت ملابسه مسدسا حربيا، مُخبئا نواياه خلف هدوء ظاهري. وعندما وصلت عبير برفقة والدها لإتمام إجراءات الطلاق، اعترض طريقها، وأطلق النار عليها بدم بارد أمام أعين والدها المذهول. وما يجعل هذا المشهد أكثر ألما هو أنه وقع داخل مؤسسة يفترض أن تكون ملاذًا للأمان والقانون. هنا تُطرح تساؤلات حرجة: كيف تمكّن الجاني من إدخال السلاح إلى المحكمة؟ وأين هي التدابير الأمنية التي كان من الممكن أن تمنع وقوع هذه المأساة؟
خاتمة مروّعة
بعد تنفيذ جريمته، فرّ مسعود من مكان الحادث، مُتجهاً إلى منطقة المعنية في الشوف، حيث أنهى حياته داخل سيارته بإطلاق النار على نفسه. وفي هذه النهاية، أسدل الستار على قصة كان يمكن أن تُحل في إطار القانون، لكنها تحوّلت إلى مأساة تعصف بأفراد العائلة والمجتمع على حدٍ سواء.
جزئيات محزنة!
تكشف والدة الضحية، في حديثها لـ «اللواء» عن جوانب مؤلمة من معاناة ابنتها مع زوجها الذي وصفته بـ «المتشدّد» والعنيف. تروي بحزن: «كانت عبير تعيش تحت قيود قاسية، حتى أنها لم تكن تملك سيارة لتتمكن من الذهاب إلى أي مكان بمفردها. كيف يمكن لها أن تخونه كما يدّعي، إذا لم تكن قد انتهت من وضع مولود، حتى تجد نفسها حاملا مرة أخرى؟ والمرحومة أمّاً لثلاثة أطفال، أصغرهم لم يتجاوز الشهر الثالث، ومع ذلك يوجه إليها تهمة الخيانة».
الاعتداءات والإيذاء بالجملة!
تسترجع الوالدة، في كلماتها المفعمة بالألم، حادثة تعرّض ابنتها لضرب مبرح على يد زوجها، حيث كانت آثار الاضطهاد بادية على وجهها. وقد حصلت «اللواء» على صور وفيديوهات تُظهر حالة التعنيف الجسدي التي كانت تتعرّض لها عبير. وتتابع «وعلى الرغم من ذلك، كنت انصحها مرارا بالصبر والبقاء في منزلها، خوفا من فقدان الأطفال الثلاثة، لكنها أخبرتني في آخر مرة أنها لم تعد قادرة على تحمّل الوضع، وأن زوجها كان يمنعها من زيارتي حتى تختفي آثار الجَلِد».
ابتزاز واستنزاف مالي!
وتتحدث الوالدة عن استفادة زوج عبير منها ماديا، فتقول: «كانت ابنتي تعمل في مجال الأخبار، لكن دخلها لم يكن كافيا. وعندما تحقق أي أرباح من إعلانات أو دعاية ما، يأخذ زوجها المال ويصرفه على أولاده من زيجاته الأخرى. فقد تزوج أربع مرات، وكان يختلق المشكلات باستمرار ليظل يسيطر على كل شيء».
قطع الشك باليقين!
من جانبه، يكشف السيد أحمد رحال، شقيق الإعلامية الراحلة عبير رحال، لـ «اللواء» تفاصيل جديدة تتعلق بجريمة القتل التي هزّت الرأي العام. وفيما نفت العائلة ما تم تداوله فور وقوع الحادثة بأن عبير قُتلت خارج المحكمة، يؤكد أحمد أن الجريمة وقعت داخل المحكمة الشرعية في شحيم، وأمام أعين والدها المصدوم. وقد حصلت «اللواء» على صورة حصرية تُظهر جثمان عبير ملقى داخل أروقة المحكمة، ما يعزز دقّة هذه الرواية.
ويتابع أحمد، «تطالب العائلة بفتح قبر الزوج، الذي تم دفنه عقب الحادثة، للتأكّد من وفاته فعلياً؛ لأن الشكوك تحوم حول هذا الأمر، لا سيما أن مسعود كان معروفاً بميوله الاحتيالية وافتعاله للفبركات. ويضيف، عدم رؤية العائلة لجثته يزيد من شعورهم بعدم الاطمئنان، وهو ما يدفعهم عبر «اللواء» للمطالبة بإعادة استخراجها».
في سياق متصل، قامت العائلة بتوكيل محامٍ لتعقّب كل من يعيد نشر الفيديو الذي بثّه الزوج قبل وفاته، والذي احتوى على أكاذيب واتهامات باطلة ضد زوجته الراحلة عبير. وتوضح العائلة أن هذا الفيديو، الذي استخدم فيه الزوج مزاعم كاذبة، لا يحق لأي شخص تداوله أو نشره، وأن المحامي المعيّن سيقوم بملاحقة كل من يساهم في نشر هذا الفيديو المليء بالافتراءات والذي يحوي معلومات مغلوطة تشوّه صورة الضحية.
ويختتم أحمد حديثه بالتنويه الى إن «خطوة فتح القبر، وإن كانت لن تعيد عبير التي أصبحت الآن «في ديار الحق»، فإنها قد تساهم في تهدئة نفوس العائلة وردّ جزء بسيط من حقها الذي سُلب ظلماً».
بين العنف والتبرير.. كذبة تحت مسمّى «إزالة العار
مما لا شك فيه، تثير هذه الجريمة النقاش مجدّداً حول مفهوم «غسل العار» ومدى شرعية استباحة حياة النساء تحت أي ذريعة. النظام الأبوي والهيمنة الذكورية المتأصلة في العديد من المجتمعات، سواء في لبنان أو العالم العربي أو حتى عالميا، تسهم في تبرير قتل النساء وتكريس ثقافة العنف والتمييز. تلك الجُنح التي تُرتكب بذريعة «الشرف» تُظهر خللاً اجتماعيا عميقا يحتاج إلى مواجهة صارمة على المستويين التشريعي والمجتمعي.
دور المجتمع في دفع النساء نحو الهاوية!
من جهتها، ترى المحامية مريانا برو في حديثها لـ «اللواء» أن «البيئة الاجتماعية التي يغلب عليها الطابع الأبوي تُهيّئ مناخا لارتكاب الجرائم ضد النساء. ففي كثير من الأحيان تُختزل المرأة إلى جسد فقط، بينما يتم تبرير أفعال الرجال حتى لو وصلت إلى القتل. وتعتبر ان ظاهرة «التطهير الاجتماعي» أو «استعادة الشرف» مثال صارخ على ذلك، حيث يجد الجاني دائما ذريعةً لجريمته، وغالباً ما يحظى بمساندة المجتمع. وتنتقد بشدّة تعاطف المحيط مع القاتل، وكأن القتل هو الوسيلة الوحيدة للدفاع عن الشرف، مشيرة إلى أن المرأة لو قامت بجريمة مماثلة، لما كانت ستُعامل بنفس التساهل.
التشريعات القانونية
على الصعيد القانوني، تشير برو إلى أن «قانون حماية النساء من العنف الأسري يحتوي على مواد فعّالة تُجرّم العنف وتشدّد العقوبات، لكن الإشكالية الأساسية تكمن في البنية الاجتماعية التي تغذّي هذه الأفعال الجرمية».
الإدراك بداية التسوية
وتشدّد على أن «الحل يبدأ بفهم المرأة لحقوقها القانونية وتجنّبها الارتباط بشخصيات تُظهر علامات عنف أو اضطراب منذ البداية. علما بأنها أصبحت أكثر وعياً مؤخراً، بفضل جهود التشريعات وحملات التوعية، لكن يبقى الطريق طويلاً لتحقيق بيئة آمنة لحمايتها من الوقوع في فخ العنف».وتختم بقولها: «هذه القضية لا تعكس فقط مأساة شخصية، بل تكشف عن خلل مجتمعي عميق يستوجب إعادة النظر في القوانين، التربية، والثقافة التي تشرعن العنف ضد النساء وتمنح القتلة أعذاراً لا يمكن تبريرها».