الكارثة كبيرة وتتمدد، هذه خلاصة الوضع على شواطئ لبنان الجنوبية التي تأثرت بالتسرب النفطي الغامض في البحر الأبيض المتوسط، وانعكس الحجم الأكبر من آثاره على شواطئ المدن الإسرائيلية حيث وقع قبالتها، دون أن يحدد مصدره بعد، وسط تكتم شديد في التحقيقات.
وبينما تعيش إسرائيل حالة طوارئ بيئية وصحية لمعالجة الكارثة، التي وصفت بأنها “الأكبر في تاريخ البلاد”، يبدو الجانب اللبناني لامبالياً بها ولا بآثارها، حيث لم يجرِ أي تحرك رسمي على الأرض أو تقييم للأضرار أو حتى مجرد تصريح من وزارتي البيئة والأشغال المعنيتين بالكارثة التي جرى رصد آثارها منذ أسبوع كامل قبل اليوم.
تهديد لكامل الساحل اللبناني
يوم الثلاثاء الماضي، كان أول رصد لبقع القطران التي افترشت الشواطئ اللبنانية، من الناقورة أقصى الجنوب مروراً بمدينة صور وجزرها ومحمياتها، إضافة إلى شواطئ قرى قضاء الزهراني، وصولاً إلى مشارف مدينة صيدا، فيما رصدت البقع الزيتية حديثا في منطقة الرملة البيضاء في بيروت، وهو ما يؤكد أن الكارثة تتمدد إلى باقي السواحل اللبنانية شمالاً، حيث يعيد البحر نقل المواد عن الشواطئ الملوثة، ليرميها على شواطئ أخرى أبعد، بعد أن تحملها التيارات وتنقلها الأمواج، بحسب ما يؤكد مدير المركز اللبناني للغوص والناشط البيئي يوسف الجندي لموقع “الحرة”.
يضيف الجندي ” قمنا بجولة من صور إلى الناقورة، حيث أجرينا مسحاً شاملا بتكليف من رئيس بلدية صور حسن دبوق وبالتعاون مع المجلس الوطني لعلوم البحار ومجلس البحوث العلمية، والاتحاد الدولي لحماية الطبيعة وبعد إعداد التقرير سمح ببدء عمليات التنظيف بالتنسيق مع محمية صور، حيث تولت البلديات توزيع المعدات المقدمة من اليونيفيل والجمعيات البيئية على المتطوعين، أما الوضع على سواحل قضاء الزهراني فأصعب لعدم وجود مصادر دعم لوجستي كاليونيفيل الذين يتوقف نطاق عملهم عند حدود نهر الليطاني، في غياب للجمعيات البيئية الفاعلة عن المنطقة”.
وبحسب المسح، تبين لفريق الكشف أن هناك تفاوتا بالكميات بين منطقة وأخرى، فشاطئ صور العريض امتد عليه التلوث حتى غطت بعض البقع مساحة 50 متراً أو أكثر. وفي عدلون هناك مأساة حيث تنفق السلاحف الصغيرة على الشاطئ، اما في الناقورة والبياضة فالصدمة كانت أكبر بسبب انتشار كتل ضخمة وغير مجزأة كما في صور، ولا يقل وزن الكتلة منها عن الـ10 كلغ منتشرة بين الصخور والاخاديد وتنظيفها شاق جدا ولا يمكن ان ينتهي بشهرين أو 3، بحسب ما يؤكد الجندي الذي يطمئن إلى أن قاع البحر لم يلحقه تلوث كذلك لم يرصد بقع عائمة على سطح البحر، فيما تتركز المشكلة على الشواطئ.
يذكر أن لبنان كان قد شهد كارثة مشابهة خلال حرب تموز عام 2006 بعد تعرض معمل الجية لتوليد الكهرباء لقصف إسرائيلي أدى إلى تسرب المواد النفطية منه إلى البحر وانتشر تلوثها على امتداد الشاطئ اللبناني، في حينها لم يؤثر التلوث على الثروة السمكية والصيادين بحسب دراسات المركز الوطني للبحوث، وعليه يأمل اليوم المتابعون للكارثة ألا تحمل أثراً على الأسماك والحياة البحرية، رغم عدم وجود تقرير يؤكد ذلك في وقت طلبت فيه السلطات الإسرائيلية من جهتها وقف عمليات الصيد واستهلاك الأسماك من البحر المتوسط.
“الكارثة لم تنته بعد، وهناك موجات من المواد النفطية التي لا تزال تصل إلى الشاطئ لاسيما مع الأمواج المرتفعة التي ترافق العواصف”، بحسب ما يؤكد رئيس اتحاد بلديات قرى الزهراني علي مطر، ويضيف “يبدو بحسب معايناتنا أنه وصل نحو 3 موجات حتى اليوم يظهرون بوضوح على الشواطئ، وهناك مناطق جديدة تظهر فيها البقع حديثاً ما يعني أن المواد لا تزال تندفع إلى الشواطئ وتنتقل بينها، وبالتالي الأزمة جارية حتى الآن لاسيما وأن الغموض يخفي مصدر هذه المواد إذا ما كانت تسرباً من سفينة أم من مصفاة أو من حفر آبار في البحر”.
من جهته يخشى الجندي أن تتطور وتنتقل بفعل الأمواج والعواصف، “فاليوم ومع الأمطار بدأنا نلحظ بقعا جديدة كان مغطاة بالرمال، عادت لتنكشف، وكان إزالة الكتل بسبب الشمس والحارة أكثر صعوبة حيث تتحول إلى شكل أكثر لزوجة، أما خلال الطقس البارد تتحول إلى كتل قابلة للحمل وأكثر تماسكاً، لذلك سنحاول خلال الطقس البارد أن نتابع عمليات التنظيف.”
متطوعون تحت الخطر
محمد الفاخوري أحد الناشطين ضمن مجموعة “روتر آكت” التي تتطوع عادة في الأزمات لتقديم خدمات ومساعدات اجتماعية، تطوع مع فريق من الشباب والشابات للمساعدة في رفع التلوث عن الشاطئ. يقول لموقع “الحرة” إن “الكارثة في صور كبيرة، دفعتنا إلى اجتماع طارئ شكلنا فرق عمل وتوجهنا الى الشاطئ وتواصلنا مع كل النوادي في المناطق اللبنانية للمساعدة في التطوع، ونحن بحاجة جدا لعدد كبير من المتطوعين فهذا الشط لنا والمدينة لنا والمحمية لنا وعلينا التحرك قبل موسم بيض السلاحف في أول أبريل المقبل.”
ويشرح فاخوري “نحن مهمتنا تكنيس هذه المواد أولا بشكل مباشر وإزالتها عن الشاطئ، ثم نمشط الشاطئ لنزع المواد المتسربة إلى الرمال ومن بعدها نقوم بغربلة الرمال للتأكد من نزع أكبر كم ممكن من الرواسب النفطية وعدم هدر الرمال في الوقت نفسه، في النهاية نملأ المواد الملوثة بأكياس مخصصة ونسلمهم للمحمية والبلديات من أجل التصرف بها”.
خلال هذه العملية تتخذ فرق المتطوعين عددا من الخطوات الوقائية لتفادي خطر كورونا أولاً، وخطر المواد النفطية المسرطنة والسامة ثانياً، “حيث نعمد إلى انتعال جزمات بلاستيكية وارتداء قفازات نايلون بالإضافة إلى الكمامات للحماية من الرائحة المنبعثة منها”، يؤكد الفاخوري ويضيف انه ما من جهة رسمية في الدولة قدمت أي مساعدات للمتطوعين أو أي توجيهات للحماية من خطورة هذه المواد أو لشرح طريقة التعامل معها، وإنما اعتمد الأمر على جهود فردية للبلديات والجمعيات والمركز اللبناني للغوص.
من جهته يشير الجندي إلى وجود نقص في عدد المتطوعين، “في حين أن شاطئ محمية صور مقصود من جميع اللبنانيين ويرتاده أبناء كل المناطق، وهو مفتوح امامهم مجانا طوال موسم الصيف، هذا الشاطئ اليوم يحتاج مساعدة الجميع وجهودهم لتنظيفه قبل المواسم البيئية والسياحية.”
الدولة ترفض الاعتراف بالكارثة
يستهجن الجندي ومثله مطر غياب وزارة البيئة والأشغال ونواب المنطقة تماماً عن المشهد أو التعليق او المطالبة بالالتفات الرسمي إليها، فيما كانت الوزيرة السابقة عناية عز الدين الشخصية السياسية الوحيدة التي اهتمت بالكارثة منذ بدايتها بحسب ما يؤكد جميع العاملين على معالجة الكارثة.
تصف عز الدين، اللامبالاة الرسمية ولاسيما من قبل الوزارات المعنية في لبنان بـ “المسخرة غير المقبولة”، وتضيف في حديثها مع موقع الحرة: “للأسف وزارة البيئة لا تتابع أي تفاصيل ولم تحضر على الأرض منذ اليوم الأول، ومن المعيب والمخجل أن وزير البيئة لا يهتم أصلا بكارثة بيئية تهدد بتداعيات بيئية وصحية وسياحية على لبنان وساحله الجنوبي.”
وخلال إحدى المقابلات الإعلامية، رد مدير عام وزارة البيئة بيرج هاتجيان على وصف التلوث الحاصل بالكارثة، معتبراً انها مجرد حادثة لا تقارن بما جرى خلال العام 2006، بحسب معاينته للمكان مع فريق الوزارة.
تصريحات هاتجيان جاءت صادمة وأثارت انتقادات معظم العاملين على القضية، حيث اعتبرها رئيس اتحاد بلديات الزهراني تقليلا من شأن المخاطر التي تصنف علمياً وإعلامياً من أخطر الكوارث البيئية، التي تستدعي تحركاً عالمياً وليس فقط على صعيد الدولة وتهدد التنوع البيولوجي والحياة البحرية، معتبراً “ان التقليل من شأن المشكلة يأتي في سبيل التغطية على الإهمال والتقصير في التحرك.” كاشفاً أن “السيد هاتجيان الذي سبق وقال إنه قام بجولة في صور لمعاينة الشواطئ لم يأت بهدف الوقوف على الكارثة وآثارها، وإنما جاء في إطار جولة له محددة مسبقاً على معامل معالجة النفايات وفي طريقة مر على شاطئ صور عرضيا، في حين أن الكارثة تتطلب حضور خلية أزمة إلى المنطقة.”
من جهتها ترد عز الدين بالقول “من لم يعلم بعد ما جرى فليسألنا لنخبره، في هذه المنطقة هناك محميتين طبيعيتين تضمان 200 نوع من النباتات والحيوانات والحشرات المهددة بالانقراض والتي لا تتواجد في كل حوض البحر المتوسط إلا في محميات صور، إضافة إلى كونها منطقة لتعشيش السلاحف البحرية المهددة بالانقراض والمحمية عالمياً. أضف إلى ذلك التهديد الصحي والاقتصادي الذي يتسبب به هذا التلوث لأهل المنطقة التي تعتبر مقصداً سياحياً يعتمد على البحر والشاطئ ويعتاش منه نسبة كبيرة من السكان، كما انه مقصداً لمختلف اللبنانيين صيفاً”.
لا رد حتى الآن
موقع “الحرة حاول التواصل مع وزير البيئة على أكثر من مستوى، دون أي إجابة للرد على الاتهامات التي تطاله بالتقصير، في حين أكدت مصادر الوزارة أن هناك قراراً من قبل الوزير بعدم التعليق حالياً على التطورات دون سبب واضح.
الأمر نفسه تكرر مع السيد هاتجيان، الذي اطلع على فحوى ما طاله من اتهامات مستمهلاً للحصول على إذن من الوزير للتصريح، ليعود ويجيب برسالة مفادها أن لا تعليق على كل ما سبق، وأن الوزارة سترفع تقريرها غدا إلى مجلس الوزراء بشأن ما يجري على الشاطئ وسيكون هناك مؤتمر صحفي يحمل كل التوضيحات.
وبانتظار التوضيحات حتى يوم غد يكون قد مر على الكارثة نحو 10 أيام، في حين تعاني البلديات والفرق المحلية من عجز في إدارة الكارثة لما تتطلبه من جهود وتكاليف تفوق قدرتها. يقول مطر إن البلديات واتحاداتها في وضع يرثى له، “فمنذ العام 2018 لم نتقاض المخصصات المالية، وفرقنا متوقفة عن العمل حيث نعجز عن دفع أجور العمال وتكاليف الصيانة واللوجستيات، وليس لدينا حتى القدرة على تلبية احتياجات المتطوعين اللوجستية من معدات وملابس واقية ومأكل ومشرب.”
ويضيف “لا يمكننا أيضاً الاتكال على التطوع من أجل حل المشكلة، المتطوعون يعملون بدافع المساعدة وليس بفعالية العمال، فلا يمكن التنبؤ بالعدد ولا التحكم بحجم العمل وساعاته وسرعته، وبالتالي نحتاج فرق مهمتها رفع آثار التلوث وفق خطة مدروسة. يمكن للمتطوعين مساعدتهم حينها”.
هذه دولة بإمكانها أن تحل المشكلة إذا تحركت بالشكل المناسب وفق خطة مدروسة وواضحة، تشير عز الدين، لافتة إله أنه “لا يمكن التذرع بضعف القدرات، ومن خبرتي وتجربتي كل الدول مهتمة بالوضع البيئي ومستعدة لتقديم مساعدة بوجود رؤية واهتمام لدى الدولة وبالاستفادة من معاهدات واتفاقيات حماية البحار المشارك فيها لبنان، إضافة إلى تحصيل حق لبنان بالتعويضات من خلال متابعة التحقيقات وإجرائها لتحديد الجهة المسؤولة عن هذه الكارثة. كل ذلك يحتاج نية وجهد حقيقي ولا أعلم ماذا ينتظر وزير البيئة من كارثة فاقعة أكبر من هذه ليتحدث ويقوم بدوره؟”