نضال العضايلة
الرئاسة الأولى
رئاسة الجمهورية
تمهيد
نظام لبنان السياسي هو نظام جمهوري ديمقراطي توافقي، طائفي بحيث توزع المناصب الأساسية بنسب محددة بين أعلام الطوائف المختلفة، وهو قائم على مبدأ الفصل في السلطات الثلاث ( التشريعية و التنفيذية و القضائية ) والدستور اللبناني يكفل للشعب اللبناني المساواة وحرية التعبير والحرية الدينية ويصون لهم ممتلكاتهم الخاصة ويعطي الفرصة للبنانيين بتغيير الحكم بالطرق الديمقراطية.
وبحسب هذا الدستور، يختار الشعب ممثليه، ويسموا النواب، عن طريق الاقتراع السري مرة كل 4 سنوات وتم أخر عملية انتخابية لمجلس النواب، أو البرلمان، عام 2018، ويقوم البرلمان، بدوره، باختيار رئيس للجمهورية كل 6 سنوات لفترة رئاسية واحدة لا تمدد، ويقوم رئيس الجمهورية بتسمية رئيس لمجلس للوزراء بعد استشارة النواب آخذا رايهم بشكل الزامي، ويسمح القانون بقيام الأحزاب السياسية.
هذا من ناحية النصوص الا ان التطبيق الفعلي والصائب للنصوص كان يشوبه العديد من الاشكاليات التي تراكمت مع مرور الزمن ليمر لبنان بعدة محن خصوصا من بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي كان اهمها احداث 1958 والحرب الاهلية بين عامي 1975 والعام 1990 بالاضافة إلى الانقسام السياسي الحاد القائم في لبنان من تاريخ 2005 مرورا باحداث حرب تموز 2006 والاعتصام المدني في وسط بيروت بين عامي 2006 و 2007 و 2008 إلى ما جرى في 5 ايار 2008 وما تبعها من اعمال عسكرية في 7 ايار 2008 ثم اتفاق الدوحة حتى اخيرا الاحداث السورية ودخول القوى الحليفة لسوريا بالحرب الدائرة هناك.
كل هذه الاحداث الجسام الممتدة على مدى 71 عاما تظهر مدى هشاشة النظام السياسي اللبناني وحاجته الدائمة إلى حكم خارجي يحكم بين اطراف النزاع الداخلي وهذا ما يسجل وجود استقرار سياسي في فترة الانتداب الفرنسي وكذلك فترة العهد الشهابي ذات الرعاية المصرية السعودية من ستينيات القرن الماضي واخيرا فترة الوجود السوري في لبنان ذا الغطاء الدولي منذ اتفاق الطائف إلى عام 2005، يمكن ان يقسم النظام السياسي في لبنان إلى ما قبل وما بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي وما بعد الاستقلال بدوره يمكن ان يقسم إلى ما قبل وما بعد اتفاق الطائف.
ومنذ ظهور دولة ما بعد 1943، تم تحديد سياسة وطنية إلى حد كبير من قبل مجموعة محدودة نسبيا من القيادات التقليدية، الإقليمية والطائفية.
ويعد الميثاق الوطني وهو الاتفاق غير المكتوب التي نظم اسس الحكم في لبنان عام 1943 وما زال يؤثر في سياستها حالياً، وبعد المفاوضات بين القيادات الشيعة والسنية والمارونية نشأ هذا الميثاق الوطني الذي سمح للبنان بالاستقلال من الحماية الفرنسية. ومن بين نقاط هذا الاتفاق ان يكون:
• رئيس الدولة اللبنانية مارونيا.
• رئيس الوزراء سنيا.
• رئيس المجلس النيابي شيعيا.
• نائب رئيس المجلس النيابي اللبناني من الروم الأرثوذكس.
• نسبة نواب برلمان المسيحيين والمسلمين 5:6 على التوالي.
• قبول المارونيين الهوية الوطنية العربية بدلا من الهوية “الغربية”.
• تخلي المسلمين عن مطمح الوحدة مع سوريا.
وبسبب الأغلبية المسيحية التي ظهرت في إحصاء السكان عام 1932 حصلت الطائفة المارونية على معظم الصلاحيات في الدولة الجديدة، ولكن تغير الواقع الديموغرافي في لبنان وتعاظم الاستياء من الحكومات المتعاقبة بالإضافة إلى الفوارق الطائفية أدى إلى قيام الحرب الأهلية اللبنانية والتي انتهت باتفاق الطائف عام 1989 الذي غير نسبة النواب في البرلمان إلى المناصفة بين المسيحيين والمسلمين وقلل من صلاحيات الرئيس الماروني.
وقد بذلت جهود لتغيير أو إلغاء النظام الطائفي في توزيع السلطة في مركز السياسة اللبنانية على مدى عقود، سعت تلك الجماعات الدينية الأكثر تفضيلا من قبل صيغة 1943 للحفاظ عليه، في حين أن أولئك الذين يرون أنفسهم في وضع غير مؤات سعت إما إلى إعادة النظر فيه بعد تحديث البيانات الديموغرافية الأساسية أو يلغيه تماما، ومع ذلك، دونت العديد من أحكام الميثاق الوطني في اتفاق الطائف عام 1989، تكريس الطائفية باعتبارها عنصرا رئيسيا في الحياة السياسية اللبنانية.
على الرغم من بعض الشيء تحت إشراف الطائف، والدستور يعطي رئيس الجمهورية إلى موقف قوي ومؤثر، الرئيس لديه السلطة لإصدار القوانين التي يقرها البرلمان، وإصدار لوائح تكميلية لضمان تنفيذ القوانين، والتفاوض بشأن المعاهدات والتصديق عليها.
يتم انتخاب الرئيس من قبل البرلمان لمدة ست سنوات. ويعين رئيس الوزراء من قبل الرئيس بالتشاور مع مجلس النواب، يتعين على الرئيس أن يكون مارونيا، ورئيس الوزراء سنيا . ويستند هذا النظام الطائفي على بيانات الاحصاء في عام 1932 هو الاحصاء الرسمي الوحيد في لبنان والذي اظهر أن المسيحيين الموارنة هم أكثر طوائف لبنان من حيث السكان.
وقبل الدخول في رئاسة الجمهورية اللبنانية ( الرئاسة الاولى في النظام السياسي اللبناني )، كان لا بد من الخوض بايجاز بمن حكموا الدولة اللبنانية منذ بدايات العقد الاخير من القرن التاسع عشر، والعقد الاول من القرن العشرين، وذلك من خلال القاء الضوء على المتصرفيات التي حكمت الدولة اللبنانية في ذلك العهد.
الفصل الاول : القائم مقامتين
قائم مقاميتي جبل لبنان
بعد عزل الأمير بشير الثالث انهارت الإمارة الشهابية اللبنانية، التي كانت صمام الأمان للبلاد والعباد طيلة سنوات طوال، فقام العثمانيون بتعيين أحد كبار الموظفيين حاكمًا مباشرًا على الجبل، والأخير كان مسلمًا سنيًا ذا أصول نمساوية يُدعى عمر باشا، فرحب به الدروز ورفضه المسيحيون، ووقف عامّة النصارى إلى جانب البطريرك الماروني يوسف بطرس حبيش الذي أعلن أنه يرفض التعاون مع أي حاكم غير لبناني أو أي حاكم لا يختاره اللبنانيون أنفسهم، وكان الباشا قد استأجر عملاءً لتحرير العرائض التي تُظهر تأييد الشعب له ورفضهم عودة الحكم الشهابي، وقد وقّع عدد من الناس هذه العرائض لقاء رشوة أو وعد أو تهديد، ومنهم من وقعها راضيًا.
وعندما انفضح أمر العرائض في الآستانة وعزم الباب العالي على إقالة النمساوي، حاول الباشا استمالة الدروز إليه وإقناعهم بقتال المسيحيين الذين لا يكنون لهم خيرًا، لكن الدروز شعروا باستغلال الباشا لهم، فتكاتفوا عليه وكادوا يقتحمون قصره، لولا أن أنقذته كتيبة من الجند العثماني ثم أرسل إلى بيروت حيث أقيل من منصبه في 6 كانون الاول سنة 1842، وفي اليوم نفسه توصل الباب العالي وممثلو الدول الأوروبية في الآستانة إلى مشروع جديد لحكم جبل لبنان، على أن يُباشر بتنفيذه في مطلع عام 1843.
بعد عزل عمر باشا النمساوي حاولت الحكومة العثمانية أن تعيّن مكانه حاكمين عثمانيين غير لبنانيين، أحدهما على جنوب الجبل، أي على الدروز، والآخر على شمال الجبل، أي على المسيحيين، ويكون مرجعهما والي بيروت العثماني، لكن الأوروبيين وقفوا في وجه الخطة العثمانية لما كانت تنطوي عليه من تقوية القبضة العثمانية “الإسلامية” على جبل لبنان، ولمّا كانت الدولة العثمانية شديدة الوهن ولا تقوى على مقارعة أوروبا القوية، فقد قبل السلطان اقتراحات ممثلي الدول العظمى أن يُقسّم الجبل إلى قسمين مسيحي ودرزي، وفي 1 كانون الاول سنة 1843، وافق السلطان على مقترح الأمير مترنيخ مستشار النمسا، وطلب من أسعد باشا، والي بيروت، أن يقسم جبل لبنان، إلى مقاطعتين: مقاطعة شمالية يحكمها قائممقام مسيحي ومقاطعة جنوبية يحكمها قائممقام درزي، يكون كلاهما مختارين من كبار الأعيان، ويخضعان لوالي بيروت، وقد عُرف هذا النظام فيما بعد باسم نظام القائممقاميتين.
ظهرت عيوب نظام القائممقاميتين عندما استمرت الفتن الطائفية في ظلّه، وسبب ذلك أن هذا النظام لم يُخفق في إزالة أسباب الخلاف بين سكان الجبل فحسب، بل إنه أضاف إليها عاملاً جديدًا من عوامل التفرقة والنزاع، هو عامل الصراع الطبقي بين الإقطاعيين وعامّة الشعب، بعد أن انتزع من الزعماء الإقطاعيين الدروز والمسيحيين سلطاتهم القضائية والمالية، وجعلها من اختصاص القائممقام ومجلس القائم مقامية.
وفي سنة 1856 أصدر السلطان عبد المجيد الأول فرمانه الشهير الذي ساوى فيه بين جميع الرعايا العثمانيين مهما اختلفت عقيدتهم الدينية، وألغى بمقتضاه الامتيازات السياسية والاجتماعية التي كان يتمتع بها فريق دون فريق أو طائفة دون طائفة، فزاد هذا الفرمان العامّة إصرارًا على نيل حقوقهم كاملة، وبطبيعة الحال كان المسيحيون في مقدمة المتمسكين ببنود هذا الفرمان كونهم يُشكلون أغلب الفلاحين وأكثرية الطبقة الكادحة تتكون منهم، فقام الفلاحون في المناطق المسيحية بثورة على الإقطاعيين وأحرقوا قصورهم وسلبوا غلالهم، ثم امتدت روح الثورة إلى جنوب جبل لبنان حيث الفلاحون خليط من الدروز والنصارى، وكانت الثقة مفقودة بين الطرفين، لذلك لم يكن بالإمكان توحيد كلمة الفلاحين من أبناء الطائفتين من أجل مصلحتهم المشتركة ضد زعمائهم الإقطاعيين.
استغل الزعماء الإقطاعيون الدروز الروابط الدينية، فأقنعوا فلاحيهم من أبناء طائفتهم بأن النزاع بينهم وبين المسيحيين قائم وأنه لا يمكن لهم الوثوق بهم، وحثوهم على تأييد زعمائهم والالتفاف حولهم للدفاع عن إخوانهم وأبناء دينهم، فأكّد ذلك ظنون المسيحيين، بأن الدروز يريدون بهم شرًا.
السيدة هستر لوسي ستانهوپ، مستشرقة بريطانية أقامت 29 عامًا في جبل لبنان وكان لها دور بارز في اشعال ثورة الدروز على المصريين وتغذية الحقد الطائفي بين الدروز والمسيحيين.
لعبت الدول الأجنبية دورًا كبيرًا في تغذية الأحقاد الطائفية، فقام البريطانيون، بعد أن عجزت بعثاتهم التبشيرية الپروتستانتية عن كسب جمهور واسع من المسيحيين، بدعم الدروز وتشجيعهم وإمدادهم بالمال والسلاح، وكذلك فعل الفرنسيون بالنسبة للموارنة، وكان معظم عملاء بريطانيا وفرنسا من المستشرقين الذين قضوا سنوات طوال في الشام.
لهذه الأسباب جميعها أصبح الجو في جبل لبنان مشحونًا بالحقد والكراهية بين الموارنة والدروز، وقابلاً للانفجار في أية لحظة ولأتفه الأسباب.
الفتنة الكبرى 1860
ابتدأت أحداث هذه الحركة في صيف سنة 1859 بخلاف بسيط على لعبة گلّة بين ولدين درزي وماروني في بلدة بيت مري، ثم اشترك في هذا الخصام أهل كل منهما، وتحوّل الخصام إلى معركة دموية، اشترك فيها أبناء الطائفتين من بيت مري، ثم من سائر قرى المتن.
وفي ربيع عام 1860 تجدد القتال، عندما قامت مجموعة صغيرة من الموارنة بإطلاق النار على مجموعة من الدروز عند مدخل بيروت، لتقتل درزيًا وتصيب اثنين، الحادث كان بمثابة الشرارة التي أشعلت موجة من العنف اجتاحت جبل لبنان وسهل البقاع وجبل عامل ودمشق، ففي غضون ثلاثة أيام، من 29 إلى 31 أيار سنة 1860، تم تدمير 60 قرية حول بيروت، كما لقي 33 مسيحيًا و48 درزيًا مصرعهم، وبحلول حزيران كانت الاضطرابات قد انتشرت إلى القرى والبلدات المختلطة في جنوب لبنان وجبال لبنان الشرقية، حتى صيدا، وحاصبيا، وراشيا، ودير القمر، وزحلة، ودمشق، وقام الفلاحون الدروز بمحاصرة الأديرة والإرساليات الكاثوليكية، سواء الفرنسية أو اللبنانية، وحرقوها وقتلوا الرهبان.
بلغ عدد القتلى اثني عشر ألفًا، وكان الدروز أعنف قتالاً وأشد بأسًا، فقيل بأنه من أصل 12,000 قتيل، شكّل القتلى المسيحيون حوالي 10,000 منهم، وقُدّرت الخسائر في الممتلكات بأربعة ملايين جنيه استرليني ذهبي، وقد وقعت الفتنة في موسم الحرير الذي كان دعامة الاقتصاد الشامي عمومًا والجبلي اللبناني خصوصًا، فأتلفته وقضت عليه، وهاجر كثير من الحرفيين المسيحيين من دمشق خوفًا على حياتهم، فتراجعت صناعة الصلب الدمشقي الشهير تراجعًا كبيرًا.
ولم يخفف من شر الفتنة إلا مروءة ذوي النفوس الشريفة، فقد دافع بنو تلحوق الدروز عن الرهبان وآووهم في بيوتهم، وظل بعض النصارى في حمى مشايخ الدروز في أمان من أيّ أذى يصيبهم، وفي دمشق حمى الأمير عبد القادر الجزائري المسيحيين فآواهم في بيته وفي القلعة، واستغل ما كان له من نفوذ في بيروت لحمايتهم كذلك الأمر.
وفي بيروت أيضًا فتح رجال الدين المسلمون وعدد من وجهاء المدينة بيوتهم للمنكوبين من الموارنة، وكذلك فعل زعماء الشيعة في جبل عامل.
لمّا خشي السلطان عبد المجيد الأول أن تؤدي هذه الفتنة إلى تدخل الدول الأجنبية العسكري في الشؤون العثمانية، أوعز إلى المسؤولين العثمانيين في بيروت ودمشق بوجوب إخمادها حالاً، وأوفد في الوقت ذاته وزير الخارجية فؤاد باشا الذي عُرف بالدهاء والحزم، وخوله سلطات مطلقة لمعالجة الموقف، فقام بمهمته خير قيام وأعدم معظم الذين تسببوا بالمذابح وسجن الباقين ونفى بعضهم وأعاد بعض المسلوبات إلى أصحابها من المنكوبين المسيحيين، وجمع تبرعات كثيرة أنفقها على ترميم القرى.
كانت الدول الأوروبية الكبرى قد ضغطت على السلطان وحملته على القبول بتشكيل لجنة دولية يوكل إليها إعادة الهدوء إلى جبل لبنان، وتصفية ذيول الفتنة، ووضع نظام جديد للحكم. وبهذا انتهى عهد القائممقاميتين في سنة 1861 بعد أن دام تسعة عشر عامًا.