عندما أقرّ اتفاق الطائف أوجد نصا يعدّد الحالات التي تعتبر فيها الحكومة مستقيلة وهي ست حالات، ولم يكن هذا النص واردا في الدستور اللبناني قبل تعديله عام 1990، وقد أدخل هذا النص في المادة 69 منه بموجب التعديل الدستوري بعدما كانت هذه المادة ملغاة بموجب التعديل الدستوري الصادر في 5/8 /1929، ومن هذه الحالات: «تعتبر الحكومة مستقيلة إذا فقدت أكثر من ثلث أعضائها المعيّنين في مرسوم تشكيلها» وهو ما يسمّى بالثلث المعطل أو الثلث الضامن.
لم تكن ظاهرة الثلث المعطّل موضع نقاش أو معارك سياسية في حكومات ما بعد الطائف، لكنها برزت بوضوح مع الحكومات التي تشكّلت بعد اتفاق الدوحة، عندما استطاع حزب الله وحلفاؤه الحصول عليه، بعد احتلاله لمدينة بيروت ما جعله متحكماً بقرارات الحكومة، وظلّ ممسكا بهذا الموقف، بعد انتخابات 2009 والتي عجز فيها عن انتزاع الأكثرية النيابية من قوى 14 آذار.
هذا النص يخالف قاعدة جوهرية في النظام الديموقراطي والتي تقضي بأن تحكم الأكثرية وتعارض الأقلية، حيث يستطيع من يسيطر على ثلث الحكومة أن يتحكّم بمصيرها، أو يعطل أي قرار يمكن أن تتخذه الأكثرية الحكومية، عن طريق التهديد بالاستقالة، ولهذا سمّي بالثلث المعطل، إلّا أن هذا النص أصبح جزءا من الدستور اللبناني، وربما كان الهدف منه اتباع سياسة التوافق بدلا من « الأكثرية تحكم والأقلية تعارض». وكان أولى ضحايا هذا الثلث المعطّل الرئيس سعد الحريري حيث استقال أحد عشر وزيرا من حكومته الثلاثينية، وهم الوزراء المحسوبين على حزب الله، أثناء اجتماع الرئيس سعد الحريري بالرئيس الأميركي بالبيت الأبيض في مطلع عام 2011.
واتّبع الوزير جبران باسيل هذا الأسلوب، أي الحصول على الثلث المعطّل في أي حكومة، في عهد عمّه الرئيس السابق العماد ميشال عون.
هذا مع رئاسة الحكومة، والأمر يتكرر اليوم مع انتخاب رئيس الجمهورية ومع المادة 49 من الدستور تحديدا، فهي لم تلحظ نصاباً معيناً لاجتماع مجلس النواب من أجل انتخاب رئيس الجمهورية، بل اكتفت بالقول «ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السرّي بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي».
لم تتكلم المادة المذكورة عن النصاب ولكنها تكلمت عن العدد المطلوب للفوز بالمقعد الرئاسي وهو ثلثي أعضاء المجلس، وحيث أن لا نص عن النصاب، فقد تمّ الاتفاق على انّ النصاب هو الأكثرية المطلوبة للفوز بالمنصب، وهي الثلثين من أعضاء مجلس النواب في الدورة الأولى، وهنا لا خلاف على النصاب، ولكن الخلاف يأتي في دورات الانتخاب الثانية والدورات التي تليها. فهل يكون النصاب فيها نفس النصاب السابق أي نصاب الثلثين أم الأكثرية المطلقة من أعضاء المجلس كما حددتها المادة 34 من الدستور؟
الرئيس نبيه برّي اتخذ موقفا واضحا: النصاب هو نصاب الثلثين لأنّ انعقاد الجلسة بالثلثين للدورة الأولى، يجب أن يستمر حتى لو تكررت الدورات الانتخابية، معتمدا بذلك على العرف المتبع في انتخابات الرؤساء السابقين.
وهنا لا بد من أن نلفت نظر الرئيس بري إلى أمرين:
1- حيث أن المادة 49 من الدستور لم تنص على النصاب المعتمد لانتخاب الرئيس فالأمر يحتاج إلى تفسير المادة 49 من الدستور، وهو أمر مناط بالمجلس النيابي، ليحدد بوضوح النصاب الذي يجب اعتماده، واعتماد الرئيس بري نصاب الثلثين استنادا للعرف القائم، فيه إلغاء لدور المجلس في تفسير الدستور، فطالما أن النص غير واضح لجهة النصاب فالأمر يحتاج للتفسير وهو مناط بالمجلس النيابي، ولا يكفي أن يقول الرئيس برّي للنائب سامي الجميّل «اسأل بيّك وأنا بمشي متل ما بيقول» وهو جواب دبلوماسي، ولكن الأمر هنا لا يعود للرئيس أمين الجميّل ولا للرئيس نبيه برّي مع احترامنا لهما، بل يعود لمجلس النواب ليقرر النصاب المطلوب. وهذا الأمر ما كان ليحصل لو بقي تفسير الدستور محصورا بالمجلس الدستوري.
2- أن القصد الذي توخاه الرئيس بري من نصاب الثلثين، وهو أن يأتي رئيس الجمهورية المنتخب بأوسع تمثيل ممكن، أو كما يسميه التوافق على اسم الرئيس، ولكن هذا الأمر ليس دائما مضمونا، بل يمكن أن يتحول في كثير من الأحيان إلى عكس ما يبتغي، لأنه يخوّل أقلية في مجلس النواب (ثلث عدد أعضاء المجلس) تعطيل انتخاب الرئيس بمقاطعة الجلسات المخصّصة لذلك، فينقلب الهدف المشروع فراغاً مستمرًّا في سدة الرئاسة، ويؤدي ذلك إلى مخالفة قواعد النظام الديمقراطي الذي يفرض انصياع الأقلية للأكثرية. إلّا إذا كان الرئيس بري يرغب إرضاء حزب الله، واعتماد نصاب الثلثين ليتحكم الثلت الباقي بمصير انتخاب رئيس الجمهورية، ومنع انتخابه بالآكثرية المطلقة، عن طريق مغادرة الجلسة لفقدان نصاب الثلثين، في حين أن تطبيق نصاب الأكثرية المطلقة كما حددته المادة 34 من الدستور عند بدء الدورة الثانية تلغي دور الثلث المعطّل ويمكن انتخاب الرئيس بالأكثرية المطلقة.
أمّا كلام الرئيس بري عن انتخاب رئيس للجمهورية بـ 33 صوتا إذا اعتمدت الأكثرية المطلقة كنصاب قانوني فهو للتهويل فقط، فهو يعلم أنّ الأكثرية المطلوبة لانتخاب الرئيس بالدورة الثانية هو 65 صوتا فالرئيس برّي يتكلم عن الأكثرية النسبية وليس عن الأكثرية المطلقة التي وردت صراحة في المادة 49 من الدستور.
وباختصار، الإصرار على أكثرية الثلثين للنصاب القانوني لانتخاب الرئيس في الدورات التي تلي الدورة الأولى هو إصرار على الثلث المعطّل لانتخاب رئيس الجمهورية أو ما بمكن تسميته دكتاتورية الأقلية.