تتكرر القضايا الإنسانية المتعلقة بالقاصرين الموقوفين بشكل مستمر بلا حلول جذرية، وكأنها غائبة عن أذهان المسؤولين، رغم تأثيرها العميق في المجتمع ومستقبله. وتبين هذه الحالة مدى هشاشة المنظومة القانونية والإدارية، وتبرز غياب متابعة حقيقية للجانب الإنساني، بينما الجيل الصغير الذي يمكن أن يصنع التغيير، يُترك بلا فرصة لإعادة التأهيل.
من هذا المنطلق، تواصل “الديار” متابعة كل ملف إنساني حساس، وتكشف ما يحدث خلف أبواب السجون ومراكز التوقيف، وتعرضها للعلن كما هي دون زيادة أو نقصان، ودون تحليلات أو تخمينات، لأن إنسانيتنا هي القوة الدافعة الوحيدة لمواجهة الصمت الرسمي، واظهار الحقائق التي تهدد مستقبل الشباب والمجتمع ككل.
الرواية الأمنية “مقنعة” ام “مقنّعة”!
في سياق متصل بتفاصيل قضية القاصر “م. أ” فقد تعددت الروايات، لكن مصادر أمنية رفيعة المستوى أكدت لـ “الديار” أن “القاصر، سوري الجنسية ويبلغ من العمر 17 عاماً، كان موقوفاً بتهمة سرقة كابلات كهربائية. موضحة أنه حاول الانتحار عدة مرات خلال توقيفه، وكان آخرها في الخامس من أيلول الفائت، وتم عرضه على أخصائي نفسي لمتابعة حالته. ورغم ذلك، يبدو أنه وضع شيئاً على رقبته وأقدم على إنهاء حياته قبل يومين”، وفق ما أكده المصدر الأمني.
قاصرون ليسوا على قيد الحياة!
واستنادا الى ما سبق، فان معلومات الناشطة الحقوقية والمحامية ماريانا برو تؤكد العكس، اذ تعتبر “انها ليست أول حالة وفاة تُسجَّل ويتم تجاهلها دون محاسبة”، وتقول: “ربما هناك عشرات الحالات المشابهة التي لا يرفّ لها جفن، ولا من يهتم بها. فالقاصر “م. أ” أنهى حياته قبل ساعات ولم يحرك أحد ساكناً، لا رأي عام ولا حتى الجهات المعنية بحقوق القاصرين والمدافعين عن حقوق الإنسان”.
وتكشف لـ “الديار”: “من تكلم وأفشى قضية انتحار القاصر أنا والمحامي محمد صبلوح، الذي نشر الخبر على صفحته، فيما الصمت التام من جمعيات حقوق الطفل ولجان الطفل مذهل. أين تلك المنظمات التي تنظم مؤتمرات وتستعرض الأنشطة، لتحصل على دعم مادي من الخارج تحت شعار حماية الطفل؟ الواقع يظهر أن غالبية هذه الجمعيات مجرد دجل ونفاق، تهدف فقط لجمع المال، إذ لم أر أي تحرك فعلي منهم”. وتسأل “لماذا قد يموت هذا القاصر دون أن يتحرك أحد؟ الجواب واضح: لأنه ليس ابن مسؤول نافذ، وإلا لما بقي مسجوناً شهوراً بتهمة سرقة كابلات كهربائية بحسب معلوماتي”.
الخبر الصاعق قوبل باستخفاف!
وتضيف برو : “رغم أني وزعت الخبر على عدد من الجهات، لم تلقَ القضية أي تفاعل إنساني، وكأن المشاعر الإنسانية قد ماتت، بينما القانون – مرحباً بالقانون – يطبق فقط على الفقراء والقاصرين ويظلم من لا ظهر له، فيما يظل أداة حماية لمصالح النافذين”.وتوضح: “لقد كشفت في العديد من القضايا عن سوء معاملة القاصرين، وعدم تطبيق القانون عليهم، وعن نشر صورهم وظلمهم، ولا زلت أطرح ملايين علامات الاستفهام حول بعض المندوبين في مكتب حماية الأحداث”.
وتشير الى “ان “الديار” وحدها اهتمت وبادرت إلى فتح هذا الملف، الذي يعد قضية إنسانية بامتياز، وكانت الوحيدة التي تجرأت على تفنيد ما جرى. وأقول للجمعيات التي تتقاضى الأموال باسم الطفل والأحداث وحقوق الإنسان، طالما لا تولون أي قضية إنسانية أهمية، فذلك المال يظل مالاً حراماً”.وتتوجه إلى وسائل الإعلام التي تتبع الترندات بالقول: “”خلّوا الترند ينفعكم”، فكل واحد منكم سيأتيه دوره في الوقت المناسب، مع استثناء بعض المنصات الإلكترونية التي تهتم بمثل هذه القضايا. فالظلم عندما يصبح قاعدة، سيطال الظالمين أنفسهم، لأنه سيمتد ويتوسع طالما أصوات الحق غائبة، وكما قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: “لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه”.
استسهال الموت “موضة جديدة”!
من جانبها، تقول رئيسة الاتحاد لحماية الأحداث في لبنان السيدة أميرة سكر لـ “الديار”: “القاصر أُوقف ثلاثة أشهر في نظارة مخصصة للأحداث، قبل نقله إلى مبنى الأحداث في رومية، ثم إلى مركز الوروار المستحدث للقاصرين، وتوجد فيه مندوبة اجتماعية من وزارة الداخلية تتابع بشكل دائم ودقيق، لكن كثرة عدد القاصرين مقابل قلة عناصر قوى الأمن، تبقى واقعاً لا يمكن إنكاره، إضافة إلى بطء المحاكمات بشكل ملحوظ”.
وتكشف “خلال التحقيقات، يرفض القاضي أحياناً تكليف محامٍ عن القاصر ما لم يحضر ذويه أو أولياء أمره لتنظيم وكالة. عندها يضطر القاصر للانتظار حتى يُنقل إلى مركز الوروار، ليُعيَّن له محامٍ يتابع ملفه ويوقّع على إخلاء السبيل. حتى عند تعيين محامٍ وتحديد جلسة، قد تؤجَّل المحاكمة بسبب تعذّر سوق القاصر، أو غياب الراشد المرتبط بالملف، أو عدم وجود محامي، ما يؤدي أحياناً إلى تأجيل يتراوح بين شهرين وخمسة أشهر. ورغم أن مبنى الوروار حديث ومجهز بأفضل التجهيزات، إلا أن الحجر لا يغني عن البشر، إذ المطلوب تزويده باختصاصيين في المجالات التربوية والترفيهية والمدنية والنفسية”.
رصد التجاوزات “كافٍ”!
وتؤكد “لاحظت المندوبة الاجتماعية في الوروار الحالة النفسية الصعبة التي كان يعاني منها القاصر “م. أ”، فتم تحويله في التاسع من أيلول إلى المستشفى، حيث وُصف له علاج مناسب لحالته النفسية. لكن غياب أخصائية نفسية معالجة بشكل دائم في المركز يبقى تحدياً كبيراً، إذ إن جميع القاصرين من دون استثناء يواجهون وضعاً نفسياً قاسياً، خاصة أن معظمهم لا يزالون موقوفين، ولا يعرفون مصيرهم أو موعد جلساتهم أو مدة محكوميتهم، وتراودهم يومياً أسئلة: كم سأبقى في السجن؟ متى سأخرج؟ لماذا لا يزورني أهلي؟ ولماذا لا أستطيع رؤيتهم؟ وهذه التساؤلات تتحول إلى معاناة مستمرة”.
وتختم: “يقوم مندوبو الاتحاد لحماية الأحداث بزيارة مركز الوروار والتعاون مع القضاة لتسريع الملفات، سعياً إلى استبدال التدابير المانعة للحرية بأخرى بديلة، وقد سجلنا قصص نجاح عديدة في هذا المجال. لكننا رصدنا مؤخراً أن الأذونات لا تُعطى للأهالي لزيارة أبنائهم القاصرين، رغم وجود مذكرة صادرة عن المدعي العام التمييزي تُلزم بالسماح بهذه الزيارات”.
الظلم يقتل الانسان ألف مرة ولا يتركه حياً!
من جهتها، تشير الأخصائية النفسانية والاجتماعية الدكتورة غنوة يونس لـ “الديار” الى “ان القاصر لا يواجه فقط حرمان الحرية، بل صدمة نفسية بسبب ابتعاده عن أهله وبيئته، ما يولد خوفاً وعزلة وشعوراً بالعار، خاصة عند دخوله السجن لأول مرة. لذلك، تأجيل المحاكمات يطيل فترة المجهول، ويزيد القلق والاكتئاب والأفكار الانتحارية، فيما يترك السجن الطويل أثراً في الهوية النفسية والاجتماعية، ويحول البيئة إلى مساحة تعزز الشعور بالذنب والدونية، مع مخاطر التعرف على أشخاص خطرين”.
التقييد يؤدّب القاصر!
وتوضح: “من وجهة نظر اجتماعية، يؤدي طول فترة المحاكمة إلى قطع روابط القاصر بأهله ومدرسته ومجتمعه، ما يعرقل إعادة اندماجه بعد الإفراج. كما يزيد توقيفه الطويل من خطر التعرض للتنمر أو العنف داخل السجن، ويولد شعوراً بفقدان العدالة والثقة بالنظام القضائي، ما قد يرفع احتمال العودة للجنوح أو الانحراف بعد الإفراج، ويظهر أحياناً في حالات الدخول المتكرر إلى السجن”.
وتشير إلى أن “تأجيل المحاكمات يطيل الاحتجاز غير المحكوم، ويمنع القاصر من برامج إعادة التأهيل، ويزيد خطر الاضطرابات النفسية والعنف الذاتي أو الانتحار، إضافة إلى انقطاع التعليم والتدريب المهني”. وتوصي “بضرورة وجود أخصائي نفسي واجتماعي مع كل قاصر موقوف، واعتماد بدائل للتوقيف مثل مراكز التأهيل والمتابعة الاجتماعية، وتسريع المحاكمات لتقليل الأذى النفسي والاجتماعي، مع إشراك الأسرة أو ولي الأمر في متابعة الحالة”.
في الخلاصة، كل يوم يمر دون محاسبة أو متابعة فعلية، وكل جلسة تأجيل في المحاكم، هي سنوات تُسرق من حياة القاصر، سنوات من الحرمان من الأسرة والتعليم، سنوات من العذاب النفسي والجسدي، سنوات تُسلب منه فرصته ليكون إنسانا قبل أن يصبح مجرد رقم في سجلات الدولة. القانون الذي وُجد لحماية القاصرين لإرشادهم وتأديبهم وفق الأصول المتعارف عليها، يتحوّل أحيانا إلى أداة لإطالة المعاناة بدل تحقيق العدالة.
لذلك، تصرّ “الديار” على كشف هذا الواقع بلا تردد، لأن كل قاصر يُسلب حقه، وكل روح تُهدر تمثل خللاً يهدد المجتمع بأسره. لا يمكن القبول بأن يتحوّل موت قاصر إلى مجرد رقم أو “شربة ماء” عابرة، ولا أن تتكرر هذه المآسي كل شهر أو شهرين دون أي ردة فعل حقيقية. إن تجاهل هذه القضايا ليس مجرد تقصير، بل مشاركة في السرقة اليومية لعمر القاصرين وحياتهم، ونحن هنا لنكشفها ونصر على أن تُسمع أصواتهم.