يخشى البعض في الداخل على مصير إتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والعدو الإسرائيلي التي جرى توقيعها بوساطة أميركية في 27 تشرين الأول الفائت، لا سيما مع عودة بنيامين نتنياهو الى رئاسة الحكومة. فهذا الأخير أعلن أنّه سيتعامل مع هذه الإتفاقية، كما تعامل مع “إتفاقية أوسلو للسلام” في حال عاد الى رئاسة الحكومة. وكان قد عارضها قبل توقيعها من قبل حكومة يائير لابيد واصفاً إيّاها بالإستسلام لتهديدات “حزب الله”، غير أنّه لم يتعهّد بإلغائها. ولكنّ لبنان حصل على ضمانات من الوسيط الأميركي في المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البحرية الجنوبية آموس هوكشتاين، وقد أدخلها في بنود الإتفاقية. فهل سيكون للموقف الإسرائيلي “المتغيّر” أي تأثير سلبي في الإتفاقية التي دخلت حيّز التنفيذ، وبدأت الإستفادة منها من العدو الإسرائيلي من خلال سحب الغاز من حقل “كاريش”، فيما لا يزال لبنان ينتظر إنجاز الإجراءات والمعاملات الإدارية لعودة شركة “توتال” الفرنسية، وبدء عملها في البلوك 9 الذي تأخّر كثيراً؟!
أوساط ديبلوماسية مراقبة أكّدت أنّ لبنان قد حصل على “ضمانات كافية” من قبل الولايات المتحدة الأميركية التي وقّع معها على نسخة إتفاقية الترسيم البحري، وليس مع العدو الإسرائيلي، لعدم إمكانية إلغاء هذه الصفقة بسهولة… كما ورد في الفقرة “د” في القسم الأول من نصّ الإتفاقية بأنّه “لا يجوز أن يُقدّم أي من الطرفين مستقبلاً الى الأمم المتحدة أي مذكّرة تتضمّن خرائط أو إحداثيات تتعارض مع هذا الإتفاق، ما لم يتفق الطرفان على مضمون مثل هذه المذكرة”. ولهذا لا يمكن لنتنياهو في حال عاد الى رئاسة الحكومة في بلاده إلغاء هذه الإتفاقية أو حتى تعديلها، أو الإنسحاب منها. وفي حال أراد ذلك فعليه مواجهة حليفته الولايات المتحدة التي وقّعت حكومة بلاده السابقة الإتفاقية معها بشكل منفصل، وليس مع لبنان، فضلاً عن المجتمع الدولي، سيما وأنّ الإتفاقية باتت دولية لدى إيداعها من قبل الطرفين لدى الأمم المتحدة فور التوقيع عليها. وعلى نتنياهو أن يُقرّر عندها إذا كان بإمكانه الإنسحاب منها، وما هو الثمن الذي سيدفعه لقاء ذلك.
من ناحية أخرى، أشارت الى أنّ نتنياهو لم يقل أخيراً بأنّه سيُلغي هذه الإتفاقية، بعد أن كان قد توعّد سابقاً بنسفها، غير أنّه أعلن أنّه “سيتعامل معها كما تعامل مع إتفاقية أوسلو للسلام التي كانت إتفاقية “إستسلام” أخرى سيئة من قبل الحكومة اليسارية”… وهذا يعني أنّه لن يُلغي إتفاقية الترسيم، لكنه لن يُطبّقها على أرض الواقع. علماً بأنّ هذا الأمر الذي اعتمده على اتفاقية أوسلو الموقّعة بين العدو الإسرائيلي ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993، من خلال عدم إلغائها، وعدم تطبيقها في آن، لا يُمكن أن يسري على اتفاقية الترسيم البحري. فبدء العمل في حقل “كاريش” لم يحصل، لو لم يأخذ الأميركي والإسرائيلي المطالب اللبنانية بالإعتبار، ويضع الصيغة النهائية للإتفاقية على أساسها.
كذلك، فإنّ تهديدات “حزب الله” ومعادلة “لا غاز من هناك من دون غاز من هنا”، أو “لا غاز من “كاريش” من دون غاز من “قانا”، على ما أوضحت الأوساط نفسها، قد تعود الى الواجهة، في حال تجاهل نتنياهو ما جاء في الإتفاقية عن بدء العمل في البلوك 9، وسعى لعدم تنفيذه. فقد جاء في الفقرة “د” من القسم الثاني من الإتفاقية بأنّه “يتعيّن على مشغّل البلوك رقم 9 (أي شركة “توتال”) عبور بعض المناطق الواقعة جنوب خط الحدود البحريّة. ولن تعترض “إسرائيل” على الأنشطة المعقولة والضرورية التي يقوم بها في إطار السعي الى التنقيب في “المكمن المحتمل” وتطويره، ما دامت مثل هذ الأنشطة تحصل مع توجيه إشعار مسبق من مشغّل البلوك رقم 9 الى “إسرائيل”. وهذا يعني بأنّه ليس على العدو الإسرائيلي الإعتراض، إنّما عليه القبول بان تقوم الشركة المنقّبة بعملها في حقل “قانا”، لا سيما بعد توجيه إشعار له.
وفي مطلق الأحوال، أكّدت أنّ الولايات المتحدة هي التي أعطت الضمانات للبنان، وعليها تحمّل أي مسؤولية في حال قام نتنياهو بإعاقة عمل شركة “توتال” في البلوك 9 اللبناني. كما وأنّ عرقلة العمل أو عدم تطبيق بنود الإتفاقية، سيجعل هذا الأخير يدخل في مواجهة مع “حزب الله”، أو في حرب معه. علماً بأنّ الإتفاقية سعت الى تأمين الأمن والإستقرار الدوليين على الحدود بشكل مبدئي، للسنوات العشر المقبلة، إذ سيتمكّن كلّ طرف من التنقيب في ثروته النفطية بسلام. وبناء عليه، فإنّ عدم الإلتزام بالإتفاقية، سيجعل نتنياهو يتحمّل وحده تبعات وتداعيات مثل هذا الأمر.
وذكرت الأوساط عينها بأنّه سبق للولايات المتحدة وأن حذّرت من أنّ “انسحاب أي من الطرفين من اتفاقية الترسيم، ستكون له عواقب وخيمة على البلدين”. ولهذا على نتنياهو إذا ما قرّر الإنسحاب منها مواجهة واشنطن والمجتمع الدولي. واستبعد ان يقوم هذا الأخير بمثل هذه الخطوة، بعدما بدأ الغاز يتدفّق بشكل كبير من حقل “كاريش”، الأمر الذي سيضرّ بمصالح بلاده، قبل مصلحة لبنان، أو بمصالح الدول الأخرى التي تنتظر للحصول على مورد إضافي للغاز والنفط.
وتجد الأوساط بأنّ الطلب على الطاقة والحصول عليها من منطقة الشرق الأوسط، هو أحد اهداف الدول الأوروبية حالياً التي تتدافع لتأمين الغاز والنفط منها لا سيما بعد تداعيات الحرب الروسية- الأوكرانية عليها. وهذا الأمر سيجعلها تواصل السعي لكي يُطبّق الطرفان إتفاقية الترسيم من دون أي إخلال، ومن دون انسحاب أي منهما. فالمصالح الأميركية والأوروبية تصبّ الى جانب مصلحة لبنان هذه المرّة، ولهذا لن تُوافق على أن يُصبح مصير اتفاقية الترسيم بينه وبين العدو الإسرائيلي مجهولاً، أو أن يُصبح موضع شكّ وقلق مع احتمال عودة نتنياهو الى السلطة. علماً بأنّ لبنان غالباً ما يلتزم بالإتفاقيات الدولية، أو بالقرارات الصادرة عن مجلس الأمن، فيما يقوم العدو الإسرائيلي بتجاهلها، وعدم تطبيقها أو الإلتزام بها، ولا من يُحاسبه أو يُعاقبه في نهاية الأمر. غير أنّ لبنان الرسمي لا يزال مطمئناً كون هوكشتاين قد وعد بتأمين الضمانات اللازمة لتطبيق بنود إتفاقية الترسيم، فهل يصدق بوعده؟