ان شيخوخة المجتمع ظاهرة ديموغرافية تتسم بزيادة نسبة كبار السن بالنسبة إلى الشباب، وهي ناتجة من عدة عوامل تشمل انخفاض معدلات الولادة، وارتفاع متوسط العمر المتوقع، بالإضافة إلى هجرة الشباب إلى الخارج بحثا عن فرص أفضل.
يشكل هذا الواقع عقبات كبرى على عدة مستويات من أبرزها الاقتصاد، حيث يؤدي تراجع عدد القوى العاملة إلى تدني الإنتاجية ومضاعفة الضغط على نظم التقاعد، كما يزيد الطلب على الخدمات الصحية المتخصصة لكبار السن، مما يضع عبئا إضافيا على النظام الصحي.
الارقام “مرعبة”… هل يجب ان نقلق؟
وفي هذا السياق، كشفت الأرقام الصادرة عن المديرية العامة للأحوال الشخصية في وزارة الداخلية اللبنانية من 2020 إلى 2023، عن تراجع النمو السكاني بنسبة تقارب 40%- ، من معدل زيادة سنوي بلغ 63.523 إلى 38.203 فردا. وقد شهدت السنوات الأخيرة هبوطا ملحوظا في معدلات النمو السكاني في لبنان، حيث بيّنت الإحصائيات انحدارا بنسبة حوالى 40% في مستويات الزيادة السكانية بين عامي 2020 و2023 ، مقارنة بالفترة الممتدة من 2016 إلى 2019. لذلك يثير هذا التراجع مخاوف جدية من تحول لبنان إلى مجتمع يشيخ.
هل التغيير الديموغرافي يُفتَّت المجتمع؟ يجيب رئيس مركز السكان والتنمية الدكتور علي فاعور “يتبين من دراسة الوضع السكاني في لبنان للفترة الزمنية بين 1932 و2018، وجود تراجع سريع في نسب النمو السكاني، فقد تزايد عدد المواطنين المقيمين في لبنان من نحو 875,252 نسمة عام 1932، ليبلغ مستوى 3,864,000 عام 2018. حيث تضاعف عدد السكان اللبنانيين مرة واحدة بين 1970 و2018، وذلك خلال مدة 48 سنة التي كانت حافلة بالنزاعات والصراعات، وأدت الى تهجير الشباب وافراغ لبنان من موارده البشرية”.
اضاف: “اما بالنسبة لكبار السن (65 سنة وأكثر)، فقد نَمَا عددهم في لبنان بمعدل خمسة أضعاف تقريبا خلال الفترة ذاتها. بينما بلغ لبنان عام 2023 أعلى مستوى في “مرحلة الشيخوخة” البالغ 14% بحسب محددات الامم المتحدة”.
تدني الولادات وتراجع الزيادة السكانية
وقال لـ “الديار” ” لقد أدى هذا الواقع الى تراجع الزيادة الطبيعية للسكان الاصليين بين 2018 و2022، حيث يتّضح من مقارنة أرقام الولادات والوفيات تراجع كبير في عدد الولادات (-38 في المائة)، مقابل زيادة في أعداد الوفيات (+6.2%)، كما يظهر هبوط كبير في عدد معاملات الزواج (-24.6%). بالإضافة الى ذلك هناك مؤشر خطر وجديد يتجلى بتزايد عدد معاملات الطلاق الى مستوى الثلث (من بين كل 3 يوجد شخص)، وهو ما يوازي 31% وهذا يؤدي الى انهيار البنية السكانية”.
وتابع مفصّلا بالأرقام “لقد انخفض متوسّط حجم الأسرة للسكان المقيمين في لبنان من 4.6 أفراد عام 1996 الى 4.3 عام 2004، ليصل الى مستوى 3.8 كمتوسط عام في لبنان عام 2018، والى 3.6 بالنسبة للأسر اللبنانية وحدها، وهو قد بات دون مستوى الخط الأحمر (2.2 طفل للمرأة الواحدة)، أو حتى مستوى الإحلال”.
وأشار الى أنه “عندما نتوسع في قراءة الخريطة الديموغرافية، تبرز التباينات المناطقية على أشدّها، فقد انكمش حجم الأسرة مع تفاوت متناءٍ بين الأقضية، حيث يتبين ان المناطق ذات الأغلبية المسيحية في المتن وكسروان قد دخلت مرحلة شيخوخة السكان السريعة. وبينما سجّلت عكار أكبر متوسط حجم للأسرة بواقع 4.8 أفراد، و4.7 في المنية الضنية، و4.4 في طرابلس، فقد سجّلت جزين المتوسط الأقل في لبنان (3.3)، كما انخفض متوسط أفراد العائلة في البترون وكسروان وراشيا الى 3.4 لكل منهم، والمتن 3.5، وكذلك في بيروت الى 3.4”.
وأضاف “يشكل وجود النازحين السوريين والفلسطينيين عاملاً إضافيا يسهم في تسريع وتيرة شيخوخة المجتمع”.
النسيج الاجتماعي “بخطر”!
ويوضح أكاديمي متخصص في علم الاجتماع والاقتصاد من الجامعة اللبنانية لـ “الديار”، ان “مواجهة شيخوخة المجتمع تستدعي تطبيق استراتيجيات استباقية وشاملة، لذلك يتعين تشجيع زيادة معدلات الولادة، وتحسين بيئة العمل للشباب، وتطوير سياسات اجتماعية وصحية تعزز التكافل بين الأجيال وتضمن استمرارية النمو الاقتصادي. ليست هذه الظاهرة مجرد تحول ديموغرافي، بل هي تحدٍ يتطلب تضافر الجهود على مستوى السياسات العامة، لضمان مستقبل مستدام للأجيال القادمة”.
ويلفت الى “ان شيخوخة المجتمع عملية ديموغرافية تزداد فيها نسبة كبار السن (عادة فوق 65 عاما) لتصبح أكبر من فئة الشباب. ومع تقدم المجتمع بالعمر يتفاقم عدد العجائز، مقارنة بعدد الأشخاص في سن العمل والشباب. ويخلق هذا الوضع تحديات كبيرة في عدة جوانب، منها الاقتصاد، النظام الصحي ونظم التقاعد”.
وتطرق الاكاديمي الى الأسباب الجوهرية التي تسهم في تفشي هذه الظاهرة، موضّحا العوامل الاتية:
1- انخفاض معدلات الولادة: ينتج من تراجع معدل الولادات في المجتمع عدد مولودين أقل من الوفيات، مما يزيد من نسبة العجائز في المجتمع. وتشير البيانات المحلية الحديثة إلى انحدار في النمو السكاني، وهو ما يعكس هبوطا في معدلات الولادة.
2- ارتفاع متوسط العمر المتوقع: يعيش الناس لفترات أطول بفضل التقدم في الطب وتحسن الظروف الصحية. ورغم ان هذا التطور يعد إنجازا، فإنه يسهم أيضا في زيادة نسبة كبار السن في المجتمع.
3- الهجرة: للرحيل تأثير كبير في التركيبة السكانية، حيث تترك مغادرة الشباب الوطن للبحث عن فرص أفضل في الخارج، الأشخاص الأكبر سنا، مما يؤدي الى مجتمع متقدم في العمر.
4- التبدلات الاجتماعية والاقتصادية: تؤدي التغيرات في نمط الحياة، مثل تأخير الزواج وإنجاب الأطفال، وزيادة مشاركة المرأة في سوق العمل، الى انخفاض معدلات الولادة مما يعزز شيخوخة المجتمع.
كما أشار الى المعوقات الناجمة عن المجتمع المسن التي تتجلى في:
– الاقتصاد: يؤثر تدني نسبة القوى العاملة سلبا في الإنتاجية الاقتصادية، ويفاقم العبء على الجيل الشاب في تمويل نظم التقاعد والرعاية الصحية.
– النظام الصحي: تضاعف زيادة نسبة العجائز الطلب على الخدمات الصحية، خاصة تلك المتعلقة بالأمراض المزمنة والرعاية طويلة الأمد.
– الترابط: يضع ارتفاع عدد العجائز ضغوطا على الجيل الأصغر لتحمل مسؤوليات إضافية تجاه الجيل الأكبر، مما يعوق الحفاظ على نظام التكافل بين الأجيال.
وختم “شيخوخة المجتمع تُمثل مشكلة تحتاج إلى تدابير استباقية لمواجهتها، مثل تشجيع زيادة معدلات الولادة، تحسين ظروف العمل للشباب وتدعيم السياسات الصحية والاجتماعية، لمؤازرة كبار السن وضمان دوام النظام الاقتصادي”.