يوماً بعد آخر، يجد لبنان نفسه موضوعاً على مشرحة دولية. تترابط الملفات كلها بعضها ببعض. سياسياً، مالياً، وعسكرياً. لا تفصل الدول المعنية، المؤثرة والمهتمة بالبلد أياً من هذه الملفات عن بعضها البعض. تماماً كما هو الوضع بالنسبة إلى عدم فصل لبنان عن تداعيات الأحداث في المنطقة، ولا سيما الحرب المستمرة على غزّة، في ضوء جبهة الإسناد المفتوحة من قبل حزب الله.
سعت القوى الدولية، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، إلى فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة، لكنها لم تنجح. ما استطاعته هو وضع ضوابط للمواجهات ومنع تحولها إلى حرب كبرى حتى الآن، على الرغم من تكرار التهديدات الإسرائيلية حول إمكانية شنّ حرب واسعة.
فصل الساحات
ما تريده أميركا استراتيجياً، هو فصل الجبهات عن بعضها البعض، وتكريس معادلة فصل الملفات، بدلاً من معادلة “وحدة الساحات”. عمل الأميركيون على تحييد العراق واليمن نسبياً، وعملوا على تأجيل الردّ الإيراني، إنطلاقاً من قناعة أن طهران لا تريد الحرب بل تريد التفاوض والانفتاح. كذلك هناك قناعة أميركية بأن حزب الله لا يريد الحرب الكبرى. لذلك تكدّ واشنطن في سبيل إنضاج صيغ ديبلوماسية لمعالجة الوضع الحدودي في الجنوب وخفض التصعيد. إلى جانبها، تنشط دول غربية عديدة على الخطّ نفسه.
حسب ما تقول مصادر ديبلوماسية متابعة، فإن الرؤية الدولية للوضع في لبنان واضحة، وقد أبلغت للجميع. إما أن يُصار إلى خفض التصعيد وانتظار انتهاء الحرب على غزة، وبعدها يتم العمل على إنضاج صفقة سياسية وديبلوماسية كبيرة، يُطبَّق بموجبها القرار 1701 بشكل كامل، مع ضمانات سياسية ودولية بعدم حصول أي نشاط عسكري لاحقاً، وصولاً إلى إنجاز الترتيبات الحدودية اللازمة. وتكمل الرسائل التي تُنقل إلى اللبنانيين، بأنه في حال لم يتم تقديم التنازلات المطلوبة من قبل حزب الله، فإن خيار التصعيد العسكري أو الحرب سيكون قائماً. خصوصاً في ضوء المزيد من التهديدات الإسرائيلية والضغوط التي يتعرض لها نتنياهو، لنقل التركيز إلى جبهة لبنان.
ترسيم الحدود
يستمر الأميركيون بالعمل على الخطّ مع الإسرائيليين في سبيل منع التصعيد. وآخر ما حصل، هو الاجتماع الافتراضي الذي عقد بين مسؤولين أميركيين وإسرائيليين. وجرى خلاله النقاش في سبل تجنّب الحرب مع لبنان، وكرر فيه الإسرائيليون مطالبهم بانسحاب حزب الله العسكري الكامل لمسافة 10 كلم عن الحدود. في المقابل، فإن المقترح الأميركي المقدم لمعالجة الوضع ديبلوماسياً، ولا سيما بما يتعلق بتثبيت ترسيم الحدود، يبقى عالقاً عند نقطتين أساسيتين. الأولى، هي نقطة B1، أي آخر نقطة برية وأول نقطة باتجاه البحر، ومعالجتها مؤجلة منذ إنجاز الترسيم البحري. وهنا تكشف المعلومات أن المقترح المقدم بشأنها هو إقرار لبنانيتها على أن تنتشر فيها قوات الأمم المتحدة كجهة ضامنة للجانبين. والثانية، هي التعدي الجغرافي والعمراني الإسرائيلي على أراض لبنانية في مستوطنة مسكاف عام، وعلى أساسها يقترح الأميركيون إمكانية تبادل أراض بشكل لا تتغير معالم المستوطنة، في مقابل أن يحصل لبنان على مساحة مضاعفة للمساحة المتعدى عليها من قبل الإسرائيليين. فيما تبقى مسألة مزراع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من بلدة الغجر مؤجلة إلى مرحلة لاحقة.
التسوية السياسية
في حال نجحت المساعي الديبلوماسية لتكريس الاستقرار، فإن ذلك سيكون مرتبطاً بمسار سياسي جديد في لبنان، يقود إلى إنتاج تسوية سياسية تعيد تشكيل السلطة. تعلم القوى الدولية أن حزب الله سيكون صاحب حظوة سياسية في هذا المجال. ولكن هناك مسعى أيضاً لتكريس نوع من التوازن السياسي. وهو لا بد أن يتحقق من خلال محاولات أميركية لدفع قوى إقليمية وعربية بالتحديد للانخراط بدور أكبر على الساحة اللبنانية. وهو ما يحصل من خلال عمل اللجنة الخماسية، أو من خلال تواصل أميركي مع دول عربية. وقد عبّر عن ذلك المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين قبل فترة، على هامش أحد المؤتمرات في أوروبا، عندما أشار إلى التعاون مع دول عربية وخليجية في سبيل الاهتمام بلبنان على صعيد المساعدات، أو الانخراط السياسي. وهذا ما كرره هوكشتاين أمام رئيس مجلس النواب نبيه برّي أيضاً. وفي السياق نفسه يندرج لقاء هوكشتاين مع نواب ممثلين عن المعارضة.
الإصلاح ورياض سلامة
ما يقوله ديبلوماسيون أيضاً، أنه ما بعد الحرب، وعلى وقع إنتاج التسوية السياسية المطلوبة في لبنان، لا بد من التفاهم على مسار سياسي جديد، يتضمن سلوك طريق جدّي للإصلاح السياسي والإداري والمالي، وذلك في سبيل إعادة لبنان إلى الانضواء ضمن النظام المالي والاقتصادي العالمي، سواء عبر صندوق النقد الدولي، أو البنك الدولي، أو من خلال التفاهم مع الجهات المانحة. ما يعني أن شروط التهدئة في الجنوب والحل الديبلوماسي، تقابلها شروط تتعلق بالتسوية الرئاسية والسياسية، وشروط أخرى تتعلق بإعادة هيكلة الوضع المالي والمصرفي.
في هذا السياق، وبنتيجة ضغوط دولية كثيرة جاءت عملية توقيف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، والتحقيق معه، خصوصاً بعد رسائل قضائية دولية كثيرة أشارت إلى أن لبنان يتهرّب من اتخاذ أي إجراءات لمكافحة تبييض الأموال أو محاربة الفساد. وإحدى الرسائل التفصيلية التي نُقلت، سمّت سلامة بالإسم بأنه يتمتع بحرية التحرك المطلقة وكأن شيئاً لم يكن.
لا أحد يمكنه معرفة المدى الذي ستبلغه التحقيقات مع سلامة، وإذا ما كان سيبقى موقوفاً أم سيخلى سبيله لقاء كفالة مالية. لكن ما تجزمه جهات ديبلوماسية عديدة، أن لبنان يحتاج إلى ورشة جدية في إعادة الهيكلة السياسية والإدارية والمالية. وهو يعني رفض دولي لآلية العمل المتبّعة حالياً، وما قد يفرض لاحقاً تخلياً عن الكثير من الشخصيات، إما بالمعنى القضائي أو بالمعنى السياسي.
منير الربيع – المدن