يسلك التسول هذه الأيام طرقا مختلفة أكثر خطورة وتأثيرا على المجتمع وخاصة على الأطفال، وحتى تسميته أصبحت «كلاس»، كونه بات يعرف بـ «التسول الالكتروني» من خلال نشر فيديوهات تحمل صور أطفال بهدف استعطاف الناس، وجمع التبرعات عن طريق النصب والاحتيال والكسب غير المشروع، وليصبح حالة من قبل مجموعات منظّمة قد تكون متمثلة بعصابات او افراد، فانتقل ممتهنو هذه المهنة من الطرقات والشوارع الى «الانترنت»، الفضاء الرحب، ولتُذَلل المحاذير امام هذه الفئة.
التسول الالكتروني او INTERNET BEGGING هو «استميال» او جذب شريحة واسعة من الناس، باعتباره نموذجاً عن الصورة الالكترونية للتسول التقليدي الذي يمارسه البعض في الشارع، بفارق ان التسول الالكتروني يحمي «الطالب» بجعله مجهول الهوية، فلا يمكن معرفة اسمه الحقيقي، مكانته الاجتماعية وتفاصيل وجهه وسنّه. وهذا الامر يبقيه بعيدا عن الاحراج الذي قد يلحق بالشحاذين التقليديين.
مهنة تخلو من الإنسانية
اضحى التسول مهنة قائمة بحد ذاتها، ومن السهل على البعض حيازة اسم نطاق «الانترنت» لتبدأ عملية السلب المبرمج، بحجة العلاج من مرض خطير، او بسبب عوامل التهجير والتشرد نتيجة الحرب، او عدم قدرة البعض على دفع أقساط وفواتير منازلهم. واغرب الحالات التي بثت للتسول، كانت من فتاة برازيلية تريد اجراء عملية تجميلية ولا تملك المال، والشائع مقاطع تصور أطفالا يبيتون دون مأوى او طعام، وكثيرة هي الفيديوهات التي تبث مباشرة على منصة «التيك توك» من داخل مخيمات النازحين، ويوظف فيها الأطفال بهدف جني الأموال.
بالمقابل، يعرف التسول بأوجه وانماط مختلفة، فالبعض يشحذ عبر مواقع مخصصة لهذه الغاية عن طريق حيازة اسم المجال الخاص بالفرد، من خلال امتلاكه ما يسمى DOMAIN NAME على شبكة الانترنت، وهو عمل رسمي يتم دفع رسوم على هذه المواقع، وتكون حصرية للفرد.
«تيك توك» مصيبة!
رصدت «الديار» عائلة تظهر مع اطفالها الثلاثة في بث مباشر على منصة «التيك توك»، حيث يقوم الوالد باستعطاف المتابعين لمنحه هدايا افتراضية. ويطلب الوالدان من المشاهدين، وهم يفترشون الارض، بوضع اعجاب او الحصول على هدية او مشاركة. ويتحجج الوالد ان أولاده بلا مدرسة، او سقف يحميهم من برد الشتاء القارس، ولا طعام يسد رمقهم، وانهم تهجروا بسبب الحرب في بلادهم وهدم منزلهم.
الهدايا التي يطلبها الوالد هي تصورية، ويمكن سحبها نقدا من التطبيق الذي يبث المحتوى عليه. بالإشارة انه يمكن لمستخدمي البث المباشر ارسال منحة كناية عن رسومات، كجائزة لصانع المحتوى. وتتعدد هذه العطايا ما بين ورود رقمية وغيرها من الأمور التي قد تفوق قيمتها مئات الدولارات.
قد يتساءل البعض من اين اتى المتسولون هؤلاء بأجهزة هواتف ذكية تتطلب حذاقة ومهارة، وسرعة بديهة وشطارة في الكلام للتأثير على المشاهدين؟ ما يدل ان هؤلاء قد يكونون اغنياء ويمتهنون التسول لجني المزيد من الأرباح.
هكذا تجنى الملايين عن طريق «التيك توك»
يحصد وسطاء «تيك توك» نسبة من الأرباح تفوق ما يتقاضاه المتسولون او صانعو المحتوى، أي ان الطرف الأول يحصل على نسبة تفوق الـ 60% من قيمة الهدايا التي يحصل عليها الطرف الثاني، والتي تتمثل بـ 20% ، ويعمد الوسطاء الى خصم إضافي تحت عنوان «خدمات»، وبالنتيجة الطرفان متسولان.
في سياق متصل، التسول الالكتروني مثله مثل الشحاذة في الشوارع والحافلات والمحلات التجارية وصولا الى المنازل، وسيلة لكسب الأموال بسهولة، ولا يرتبط في كثير من الأحيان بالحاجة المادية او الظروف البيئية والحياتية وتلك الاقتصادية، ليتحوّل على الأرض الى شبكات اشبه بالعصابات «المافياوية» عملها منظم، ولكن ليست في الشوارع بل على الانترنت.
الاهل فقدوا السيطرة على أطفالهم
وفي السياق، حذرت الاخصائية النفسية والاجتماعية غنوة يونس في حديثها لـ «الديار»، «من العولمة والتطور التكنولوجي الذي أصبح في متناول الجميع، والصغار قبل الكبار، حتى فقد الاهل السيطرة على أطفالهم بمنعهم من الجلوس لساعات على هواتفهم الذكية او حتى تقليص الوقت ومراقبة ما يفعلونه، وهذا الامر طال الاهل الذين أدمنوا منصات مواقع التواصل الاجتماعي واضعين أطفالهم في مآزق لا تعد ولا تحصى».
واردفت «مضار هذا الإدمان تتمثل بالنواحي الجسدية والعقلية وحتى الحركية لدى الأطفال، فحدّ الجهاز الذكي من قدراتهم على التفاعل مع المحيط واكتشاف علاقات وامور جديدة. وهذا التأثير السلبي قد يترجم فيما بعد على شكل اضطرابات نفسية، تظهر نتيجة السلوك الادماني على الانترنت».
وتابعت: «اما الاهل الذين يحثّون أولادهم لتصوير فيديوهات تضم مشاهد فكاهية او تراجيدية بهدف الحصول على الأموال، تضعهم امام مشاكل لامتناهية وأبرزها التحرش الجنسي، حيث يوجد افراد خلف الشاشات يعانون من الشذوذ لميولهم الى ممارسة الجنس مع القصّر او التحرش بهم، او دفعهم على مشاهدة صور ليست مناسبة لأعمارهم، والتي قد تعرضهم لاهتزازات نفسية ومعنوية وحتى قانونية، وقد اثبتت الدراسات ان الطفل خلف الشاشة مهدد للاعتداءات الجنسية، وعلى الاهل التنبّه لهذه النقطة والقيام بتدابير لحمايتهم».
الأذى قد يأتي من الاهل
وقالت يونس «يحتاج الطفل منذ الصغر الى تطوير نموه العاطفي والاجتماعي كما علاقاته، من خلال التفاعل مع الآخر بالنحو الطبيعي والاحتكاك والمشاركة، واشارت الى «ان الضرر الذي يلحق به، سيدفعه للانسحاب من عالمه، ليكون داخل فضاء الشاشات بفيديوهات مصورة يكون هو بطلها الذي يحقق الربح، وهو في سن غير مؤهل للتفكير بالبيزنس والتسويق وجني الأموال الطائلة. ولمحّت ان «هذه الأمور تقتل الطفولة والبراءة والحب للعب والاكتشاف وتكوين الصداقات، ويتسبب بالإدمان وجعل النفس رهينة لأدوار ليست ملائمة لعمره».
واكدت ان «الطفل في مرحلة نموه يبني ذكاءه الانفعالي ، الذي يختص بالعواطف والعلاقات مع الاهل والام تحديدا، وهو ما يساعده في المستقبل ليكون واثقا من نفسه وفي اختبار الارتباط الصحيح ،عوضا عن الانغماس بوسائل التواصل وتصوير مقاطع الفيديو التي تقوم على التسول ليكون بذلك أداة لذويه».
الحلول
ودعت يونس «الى ضرورة انتباه الاهل لأولادهم، بحيث يوجد خيط رفيع ما بين التسويق الذي يمتهنونه لجني الأموال بسهولة بالتسول الالكتروني، والضرر الذي يلحق بأطفالهم من خلال سلوكيات ادمانية «التورط» بما يقوم به الاهل، كما ان الطفل لا يملك احقية قول نعم او لا على هكذا قضايا، لعدم نضجه وتحكم الاهل به وسيطرتهم على قراره».
واوصت الاخصائية النفسية «بضرورة متابعة هذا القطاع من قبل الدولة والجهات المعنية، لان التسول سيتوسع في المستقبل، وسيكون كارثيا على المجتمع، ويؤثر سلبا على الفتيات والشباب وخاصة الأطفال. وفي ظل غياب الرقابة، فإن هذه الظاهرة ستتمدد، وقد تصل الى مراحل يصعب فيها احكام السيطرة عليها او ضبطها وحتى منعها ولو تغريماً».