تخطّى المواطن اللبناني مرحلة الخوف من الحياة والاتكال على ربّه ليمرّ اليوم الواحد بخير، إلى أن بدأ يخاف حتّى من الموت، الذي بدأ يُحتسب بالدّولار. فبعد أن صارت تكلفة المعيشة في لبنان باهظة للغاية، أصبح الموت حتى مكلفًا، إذ أصبح دفن الموتى يخضع لحسابات جدية ودقيقة، في ظل جنون سعر الدولار مقابل الليرة اللبنانية.
طقوس الدفن بالدولار
صحيح أنّ طقوس دفن الموتى تختلف بين طائفة وأخرى في لبنان، وذلك بحسب العادات بين الأديان الثلاثة المسيحية والإسلام والدّروز، إلّا أنّ القاسم المشترك بينها أنّها أصبحت جميعها بالفريش دولار، بدءًا من إكاليل الورود إلى التّابوت (صندوق الدفن) وصولًا للمأكولات المالحة والعصائر والقهوة. حتّى استئجار الصالة لمدّة 3 أيّام لم تعد مُربحة، وأصبح النّدب على الميت ينتهي في يومه الأول أو اليومين الاثنين.
نعيش في بلدٍ حتّى الموت فيه أصبح همًّا، هذه كانت اولى كلمات عماد ابن قريةٍ جنوبيةٍ في لبنان، مؤكّدًا أنّ من مات في فترة كورونا “ارتاح من الهمّ والغمّ”.
وتابع في حديثه للدّيار: قديمًا كان الميت يُدفن في أرضه من دون أيّ تكاليف، لكنّ اليوم عمليّة دفن الموتى باتت من أكثر التقاليد تكلفةً على المواطن وأهله، إذ بات حفر القبر الواحد حوالي المليوني ليرة في حال كان قد دفن فيه سابقًا أحد الأموات في سنواتٍ سابقةٍ. أمّا القبر الجديد، تبلغ تكلفته حوالي 150 إلى 180 دولارا يضاف إليها مهمة تجهيز الميت بالغسل والكفن التي تبلغ كلفتها حوالي 130 دولارًا.
خسرتُ عمّي أيام كورونا، حيث تم دفنه بعد موته سريعًا، خوفًا من تفشي الفيروس طبعًا في المكان. لم نصلّي عليه بالطّريقة اللازمة، ولا حتّى أمّنا “لقمة الرّحمة” وهي عبارة عن ساندويشات ومشروبات غازية ومياه وصحن الرز مع الدجاج، لأنّ الناس في حينها لم تكن قادرة نهائيًا على التحرك من منزلها خوفًا من المرض واحترامًا للمعايير التي كانت عليها احترامها. كانت تكاليف موت عمّي قليلة للغاية، فعلًا كان حظّه جميلًا في هذا البلد، لأنه تمكّن من تسديد فواتير موته.
المواطن يخاف الموت
يعتبر فؤاد، ابن البقاع أنّ الحياة في لبنان باتت أفضل من الموت فيه، نسبةً للتكاليف الكثيرة التي عليه تأمينها لمراسيم الدفن. ويؤكد للدّيار أنّ سعر التابوت تخطّى الـ300 دولار وأنّ هناك الكثير من العائلات أصبحت اليوم تكتفي بتقبل التعازي في الكنيسة لدى الطائفة المسيحية، نظرًا للارتفاع الجنوني في تكاليف الدفن.
ويؤكد أنّ أجرة سيارة نقل الدفن تختلف من منطقة إلى أخرى، كمثلًا في البقاع حوالي الـ80 دولار، أو بحسب بعد وقرب الضّيعة. وطبعًا تختلف الفاتورة لو نقل الميت إلى مدافن داخل زحلة، أو خارجها وإلى المناطق المجاورة، وكلّما كان المكان أبعد، كلّما الفاتورة ارتفعت. أمّا نقل الميت في بيروت تتراوح تقريبًا ما بين 100 والـ120 دولارا. ضف إلى ذلك تكاليف المطبعة التي أيضًا تستوفي أجرها بالدّولار لافتًا إلى أنّ كل 100 نسخة بـ12 دولارا.
ويختم فؤاد: لذلك، العديد من العائلات باتت تعتمد فقط على نشر صورة النعوة او بطاقة التّعزية على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وانستغرام لمعرفة كل تفاصيل الدفن كالمكان والزمان وإلى ما هنالك. لكنّ السؤال الذي طرحه فؤاد هو: هل سيرضى الابن أو الأب أو أحد أفراد العائلة أن تتم الجنازة بطريقةٍ عاديّةٍ أم أنّ للميت قيمته الكاملة وحقه في أن يموت بأرتب وأفضل أسلوب؟
أزماتٍ عديدةٍ تعصف بلبنان، وتجعل من المواطن اللّبناني متأهبًا في كلّ لحظةٍ لمواجهة هكذا أنواع من التّحدّيات التي تصيبه يوميًا، فكيف يعيش أصحاب الدّخل المحدود أو بالأحرى كيف يموت أصحاب الدّخل المحدود؟
الياس سلوم، كسائر موظّفي القطاع العام يعيش يومه بيومه حيث عليه تأمين لقمة العيش والبنزين والذهاب إلى عمله، معتبرًا أنّ رسم الطموحات والأفكار الجديدة للمستقبل لم تعد مطلوبة في لبنان.
والده مريض جدًا، يغسّل كلاويه ويعاني من السكري والضغط وتسكير في شرايين قلبه. يعاني أيضًا من الربو وعمره تخطّى الـثمانين عامًا.
يوضّح للدّيار أنّ حبّه لوالده لا يثمّن ويتمنى لو أنّ الرب “بياخد من عمري وبيعطي بييّ” ولكن تكاليف الموت باتت مرتفعة جدًا. وهذا حال سلوم.
ويسأل: أكبر همّي اليوم هو تأمين الدّواء والعلاج اللازم لأبي، والله عندما يأخذ أمانته، سيراكم علينا الدّيون لأنّ كلّ ما جمعه والدي منذ أن كان شابًا حتى الآن صرفهم نتيجة جنون الدّولار في المستشفى، واليوم لم يعد يملك قرشًا واحدًا. أمّا نحن، موظفو قطاع العام، حدّث ولا حرج عن رواتبنا. فمن المسؤول ومن سيساعد والدي في تأمين علاجاته وأدويته؟ وفقًا لتقارير الأمم المتّحدة، يعيش أكثر من 55% تحت خطّ الفقر، لهذا السّبب أصبحت وفاة أحد الأقارب عبئًا ماليًا وثقيلًا على المواطنين اللّبنانيين. فهل الدفن سيصبح ممنوعًا؟ وإلى متى الصّمود؟