هكذا قيل لي ليلة أمس. لم أنم. قلت: نكتب ولو في العتمة. بانتظار الفوضى العارمة وحكم العصابات اللامتناهية في لبنان!
ما أن هممت للكتابة حتّى قبضت على أصابعي يد عشواء، وراحت تخبط بي عشوائيّاً، كيف عرفَتْ أنّني أبحث عنها؟
ما يمكنني قوله اليوم، أنّ اللبناني مواطن قاطن في تجويفة ضرسٍ مظلمٍ نتن الروائح اسمه لبنان. يرقص فيها فلا يغفو فأكتب معه وعنه لشدّة القهر الماضي والحالي والآتي. لربّما هي تجويفة ضرسٍ وحش كوني وحيدا. كلّما شهق أو زفر، أو حمل قشّةً بين أسنانه منقّباً فضلات الجماعات المهروسة أو الأطفال الجائعين، أو حرّك عضلةً من عضلات وجهه أو حكّ جسده، أو سعل، ترتعد الأزمنة، ويبدو الموت سحلاً أو سحقاً من تعانق الأضراس.
أنا أبحث عن ميتةٍ هادئة، بعدما دفعني القهر نحو بيروت.
حاولت تحــرير أصابعي للكتابة، فاصطفّت مخابرات الدنيا الطائفية ورجال أمنها وسجونها حول مجاري الحبر حمايةً للخطب والتصريحات الرسمــية في لبنان معقل الدكتاتوريّات الديمكراطيّة بالكاف . بات صعباً على نسائنا التلفّظ بالقاف. القاف خشنة ثقيلة وجبلية وسئيلة ومنها «ستيل».
أوقفت الكتابة وصرت ولداً يلثغ ما لا يفهم ليكتب. قالت عشواء وقد أرجعتني رضيعاً: سأودعك سرّاً. صحيح أن اسمي عشواء، ولكنني قبضت على كلّ المفاصل والأنفاس في لبنان هذه النسخة والُلقية البائسة الفريدة في على وجه الأرض.
تأتأت ملوّحاً: لكن ما هو هذا السر؟
قالت: أنا زوجة أحد أحفاد هولاكو المغولي المعشش في عقولكم، وكلّكم خرجتم منّي.
وأومأتُ سائلاً: هل سيبقى زوجك في لبنان أبداً ؟ ألم تقطعك بعد؟ متى تتوقّف تلك الذريّات؟
هزّت برأسها وقالت: لا أعرف. إسألوا حكّامكم الهولاكيين.
وقفزت صارخاً: بل أنا الذي يعرف أيتّها السيّدة الأولى في وطن الخرائب.
نحن من ذريّة هولاكو إذن، وعشواء هي السيّدة الأولى في الخرائب اللبنانية كما جاء في فصل التّسمية.
هولاكو تسمعون عنه وتعرفونه. كلّكم تعرفون ذريته، لكنّكم لا تتلفظون باسمه أو باسم أولاده وأحفاده حتى لا تنهرس ألسنتكم.
كان هولاكو أوّل المشيّعين وآخرهم لبقايا اللبنانيين في لبنان. إعتاد تشييعنا بلذّةٍ العصركما الزيتون كلّ 10 سنوات.
منذ سقوط لحظه قديماً على بغداد، كان الحبر العربي القديم قد امتزج بمياه البــصرة ساقطاً دامعاً إلى أعماق الخليج الذي تحــوّلت مياهه الزرقاء على اختلاط بالسواد وأوراق المخطوطات والمكتبات والأبحاث. أسمعتم ببلاد ما بين النهرين كيف خلع أبوابها الأميركي بحذائه «الرانجر» في ال2003؟
أيّ خليجٍ؟ سألتُ عشواء.
أقرّ لك يا سيّدتي، أنّني أعرف في الجغرافية كما عرفت سميرة توفيق في علم النفس، أو داليدا في علوم الكومبيوتر والذكاء الإصطناعي، والتاريخ منقسم باقٍ مكبّاً لقمامات القصور والدور المضيئة في لبنان. يقضي الفقراء الجائعون والكلاب والهررة والدجاجات وعصافير الدوري حياتهم بالتدافش فوقها بحثاً عمّا يسدّون به جوعهم من الحبوب والمأكولات المتعفّنة الساقطة حول براميل القمامة السوداء المحروقة أو التي حرقتها «الثورة» أو «السورة» كي يصل نواب التغيير إلى البرلمان. «مراح» بلادنا واسعة وطريّة يجدون فيه من كلّ الأرض أغراضهم وغذاءهم ومبتغاهم وأصواتهم غير المفهومة. كلّما غاصت أرجلكم ومناقيركم ورؤوسكم في «السماد» الطري وعفونته، وجدتم بناء وطنكم المثل والمثال.
تاريخنا رحم يولّد المتناقضات المتشابهة المتقاتلة والمتلاقية تدور تماماً كما تلتفّ الأفاعي في أعشاشها وتتزحلق بلحظةٍ لنشر السموم في الشاشات والإشاعات عندما تشرّف العتمة ويقعد البؤساء لسماع المذيعين والمذيعات على ضوء الشموع. كلّ يجد فيها ما لا يشتهيه. تاريخنا مثل وطننا مرعى مفتوح على الرعاة من كافة الملل والأجناس والألوان والأشكال يقود الجميع ويهشّ عليهم قطعاناً تفتقد الخيارات والجنسيّات.
هذا وطن؟ لا لا… ساحة بل ساحات مفتوحة ممدوة لا تنتهي على ألسنتهم بين من أسماها بيروت الكبرى والضاحية. ساحات بلا سياج لا مداخل ولا مخارج لرعاة الدنيا وعصاباتها تدوس الشعوب المفتّتة المرمية في الشمس والبؤس كما بقايا ولائم المقاصف والمطاعم الراقية تُتخم براميل القمامة وقد باتت صعبة المنال، والتقرب منها قد يقود تخابط الجياع نحو السحل.
لا تسأليني يا عشواء، أي خليجٍ أقصد.
سمّه ما شئتِ.
أنسبيه على هواكِ عربيّاً أو فارسيّاً أو عالميا. إشربيه بملحه وأسماكه وحيتانه ومعاركه، فإنّني لست مستعدّاً لأن أصير نملةً تُسحق تحت حذاء عابرٍ يدّعي الفهم في التاريخ أو في الجغرافية.
سنتابع… وليملأ الحبر الساحات والشوارع والأفواه المفتوحة على الذباب والجوع والكسل والموت لكنّ الصراخ بالتغيير والتبديل يعني…؟؟؟ من يَجِبني؟
الله يعشق التغيير… أبداً.