في بلدٍ كان مطمعا لأطماع العدو الإسرائيلي في ثروته المائية، بدأت أنهاره تجفّ، ومياهه الجوفية تنهار، وسدوده قِرَب مثقوبة تنهشها مشاريع فاشلة. بلدٌ كان يُلقَّب بـ «خزّان الشرق»، تحوّل إلى أرضٍ مقفرة، تُهدر مياهه وتُدمَّر بيئته بإهمالٍ رسمي قاتل. ليست أزمة موارد، بل انهيار وطن.
تصحّر الأنهار من صنع أصحاب القرار!
بناء على ما تقدّم، يقول رئيس حزب البيئة العالمي والخبير في الشؤون البيئية، الدكتور ضومط كامل، لـ«اللواء»، إنّ «العام الحالي يُظهر بوضوح مؤشرات خطِرة لانخفاض الموارد المائية، وقد بدأنا نلحظ هذه الأخطار منذ مطلع القرن الحالي. وعلى الرغم من أنّ بعض السنوات السابقة شهدت فترات من الشح، فإنّ ما نواجهه هذا العام بلغ مرحلة شديدة الخطورة، نتيجة غياب المتساقطات، إذ لم يتجاوز المعدل العام نسبة 50% من المعدل السنوي المعتاد في لبنان. وبالاستناد إلى هذه المعطيات، فإنّ جميع هذه العوامل مجتمعة أدّت إلى انحسار كميات المياه على مستوى البلاد، تجلّى بتدنّي منسوب الأنهار وتراجع جريان الينابيع. ويُضاف إلى ذلك أنّ الفترة الراهنة تشهد غياباً فعلياً لأي مخزون جوفي مائي قادر على تغذية هذه الينابيع والأنهار».
لبنان يُحتضرُ عطشاً!
ويُشير: «لقد شهدنا جفافاً في مياه عدد كبير من الأنهار، يُقدَّر بنسبة تقارب 90%. فعلى سبيل المثال، نهر إبراهيم، الذي يُعدّ من أبرز الأنهار في منطقة جبل لبنان، تراجع منسوبه بشكل كبير، بحيث لم يتبقَّ فيه أكثر من 10% من كمية المياه المفترضة. وقد تأثّر منسوبه إلى درجة بات فيها الوضع مؤذياً فعليا. وستنعكس هذه الانخفاضات سلباً على القطاعات الزراعية، ومصادر مياه الري، والشرب، والاستعمالات اليومية. ونحن بحاجة ماسّة إلى هذه الكميات من المياه، لكن ما نواجهه اليوم هو نتيجة مباشرة لفقدان البلاد لأي استراتيجية مائية. بل أكثر من ذلك، لا نملك حتى خطة إنقاذية لمواجهة هذه الأزمة».في المقابل، يجزم: «ان ما تقدّم يرتبط بالتغيّر المناخي، الذي أدّى إلى تراجع كبير في معدلات هطول الأمطار وتساقط الثلوج في لبنان، وهو ما أثّر بشكل بالغ الضرر على الوضع المائي العام». ويطرح تساؤلاً: «من يدفع ثمن هذا الواقع الذي نعيشه؟» ثم يُجيب: «يدفع المواطنون اللبنانيون بكل أطيافهم الثمن، وأيضا المزارعون، والقطاع الزراعي، والإنتاج الزراعي عموما».
الآبار «بَح»!
ويكشف: «في الأسبوع الماضي، قمت بعدّة جولات ميدانية، وتبيّن لي أن عددا هائلاً من الآبار الارتوازية في منطقة البقاع قد جفّت بالكامل ولم تعد تُعطي مياها. كما توقفت 70% من الآبار في هذه المحافظة عن العمل، بينما تشهد الآبار المتبقية انخفاضاً ملحوظاً في منسوبها، في ظل غياب الكميات اللازمة. أما القطاع الزراعي فقد تضرّر بشكل خطِر؛ إذ يبست عناقيد العنب على العرائش نتيجة انعدام المياه اللازمة لريّ الأشجار المثمرة، وسقطت حبّات الأفوكادو على الأرض بفعل الجفاف المخيف. وبذلك، فإنّ ما بين 80% و90% من القطاع الزراعي لم يُروَ على الإطلاق. حتى شتلات القمح لم تنمُ أكثر من 50 سنتيمترا عن سطح الأرض، وكانت شبه معدومة. كما تأثّرت سائر الحبوب بأنواعها المختلفة». مؤكدا انّ «هذه المعاناة تفاقمت بشكل كبير نتيجة الغياب الكامل لأي خطط مائية في البلاد».
ويُفصّل كامل لـ «اللواء»: «ان الأنهار الموجودة حاليا تحوّلت إلى مجارٍ للصرف الصحي والصناعي. فعلى سبيل المثال، نهر الليطاني، الذي أملك بشأنه كافة التفاصيل العلمية الدقيقة، يحتوي على أكثر من 8000 مصبّ للصرف الصحي والصناعي. وعلى الرغم من كونه نهرا مميّزا بطبيعته، إلّا أنه تعرّض للتدمير بفعل التلوّث الشديد. أما بحيرة القرعون، فهي شبه فارغة، في ظل غياب أي برنامج إنقاذي لمعالجة هذا الواقع الكارثي».
السدود… وما أدراكم ما السدود؟ «قِرْبةٌ مثقوبة»!
ويُوضح: «طالبنا بإقامة سدود معلمية في المناطق التي تُعدّ صالحة فعليا لهذا النوع من المشاريع. غير أنّ السدود التي تمّ إنشاؤها حتى الآن جاءت بطريقة غير شرعية، وغير علمية، وأدّت إلى تدمير المناطق المحيطة بها. والأسوأ من ذلك، أنّها لم تخزّن نقطة مياه واحدة. ومن الأمثلة على ذلك سد المسيلحة، الذي يفتقر تماما إلى المياه، ويمكن القياس عليه من خلال ما حدث في سد بلعة، وسد جنّة، وكذلك السدّ في عشقوت، وسدّ بسري». لافتا إلى ان «المليارات التي أُهدرت على هذه المشاريع لم تُفِد اللبنانيين بشيء، بل كانت كلّها فاشلة، وبامتياز».
ويقترح: «تعيين شخصية قيادية بيئية – مائية، تكون على دراية تامة بكل ما يتعلّق بالسدود، وتتمتّع بمعرفة علمية واسعة في كيفية إنشاء سدّ ناجح يُحقق نتائج ملموسة للمواطنين بنسبة مئة في المئة، بدلاً من الاستمرار في بناء سدود فولكلورية، بحيث يُشيَّد سدّ في كل منطقة ليُصبح لاحقاً مجرّد مكبّ لتجميع النفايات. لذا، آن الأوان لنقوم بخطوة حقيقية وفاعلة تخدم وطننا بالمستوى المطلوب».ويعتبر أنّ «السدود التي أُنشئت لم تُقدّم أي فائدة تُذكر للبلاد؛ فمياه الأمطار التي هطلت في فصل الشتاء انحدرت مباشرة نحو الأنهار، ثم انتهت في البحر، وذلك نتيجة غياب السدود المدروسة. فلو كان سدّ جنّة مثلا، سليما من الناحية الإنشائية، لكان قد خزّن ما يقارب 50 مليون متر مكعّب من المياه، والنهر لا يزال يجري. وهذه الكمية كانت ستكفي، بكل تأكيد، لريّ الساحل الجُبيلي والكسرواني».
ويُنوّه إلى أنّ «الخوض في هذا الموضوع بشكل أوسع قد يأخذ طابعا سياسيا، وهذا ما لا نسعى إليه إطلاقاً، فنحن بعيدون كل البُعد عن السياسة. ما يهمّنا هو وجود سدّ نافع، ممتلئ بالمياه، يروي الزراعة، ويُلبّي حاجة الناس من مياه الشرب».
ويتطرّق إلى مسألة حفر الآبار الارتوازية، معلّقاً: «لقد طالبنا الدولة اللبنانية باتخاذ القرار المناسب في هذا الشأن، وقد حصل ذلك بالفعل، لكنّه لم يكن كافياً أو فعّالا من قِبَلها. لذلك، أدعو وزارة الطاقة والمياه بالتعاون الفوري معنا، في ظلّ استعدادنا لتقديم أحدث الاستراتيجيات العلمية المطلوبة والمتعلّقة بإدارة قطاع الآبار الارتوازية، لأنّ هذا الملف يتطلّب إدارة خاصة ودقيقة. فهناك نحو 130 ألف بئر في البلاد، ولا أحد يعلم على وجه الدقة كيفية استخدامها، وأكثر من نصف هذه الآبار يُستخدم في تصريف مياه الصرف الصحي، ما يعني تدميرا مباشرا وخطرا للمياه الجوفية، من دون أي رقابة أو محاسبة». مضيفاً «ما الفائدة من وضع إشارة على عقار ما، في حين لا تزال المياه تُصرّف في المجارير والصرف الصحي؟ هذا الإجراء غير مناسب، ويشكّل خللا كبيرا في إدارة هذا المورد الحيوي».
ويتحدث عن المتساقطات مستقبلاً: «سنشهد انقلاباً عالميا في المناخ، لا سيّما في هذا العام الذي سجّل تحولا خطِرا على صعيد الأمطار الهاطلة والكتل الهوائية. فاليوم، الكتل الهوائية في العالم كلّه قد تضرّرت، وتبدلت حركتها وخصائصها، وهي التي تؤثّر بشكل مباشر في توزيع المتساقطات. وهنا يكمن الخطر الأكبر؛ إذ إنّ هذه التغيّرات ستُفضي إلى واقع مناخي جديد، حيث ستشهد بعض المناطق حرًّا شديداً وتمددا في التصحّر، في حين ستتعرّض مناطق أخرى لهطولات مطرية كثيفة جدا على هيئة سيول جارفة.
وأناشد الدولة اللبنانية أن تستمع إلينا من أجل وضع خطة مواجهة وجاهزية حقيقية للتعامل مع الواقع الراهن والقادم في لبنان، لأنّه وحتى هذه اللحظة، لا نملك أي خطة واضحة. إذ ان الشخص الذي يجلس خلف مكتبه ولا يعي شيئا مما يجري على الأرض، لا يمكنه وضع أي استراتيجية، وبالتالي لا يعرف ما يجب فعله. والكثير من القيادات للأسف ليس لديهم أي خبرة أو اطّلاع على هذه القضية. فكيف يمكن لمن لا يُدرك ما يحصل على أرض الواقع أن يعمل على الإصلاح؟».ويختم: «الإصلاح الحقيقي يبدأ عندما يعرف المسؤول الأرض عن كثب، ويُحدّد المشكلة بدقّة. من هناك، فقط، يمكن أن يبدأ العمل الجاد لإصلاح الأمور».