رغم صغر مساحته الجغرافية، يشكّل لبنان نقطة ارتكاز بيئية فريدة على الخريطة العالمية، إذ يُعد ثاني أهم ممر لهجرة الطيور في العالم. هذا الواقع يفرض عليه التزامات بيئية كبرى، لا سيما بعد توقيعه على عدة اتفاقيات دولية تُعنى بحماية الطيور البرية وتنظيم الصيد المستدام. لكن المفارقة أن قطاع الصيد البري في لبنان، بدلاً من أن يكون نموذجاً في التوازن بين التراث والمساءلة، يتحوّل موسماً بعد آخر إلى ساحة للفوضى البيئية، بفعل الصيد العشوائي والجائر الذي يُمارس بعيداً عن أي رقابة فاعلة أو محاسبة حقيقية.
ان غياب التنظيم الفعلي والتراخي في تطبيق القوانين، إضافة إلى فشل سياسة المنع غير المصحوبة ببدائل عملية، ساهم في اتساع رقعة المخالفات، وتهديد الطيور المقيمة والمهاجرة على حدّ سواء. فبين طلقات الرصاص التي لا تميّز بين نوعٍ نادر وآخر مهدّد، وأساليب الصيد غير الشرعية مثل المصائد والفخاخ والشرك، تتساقط الطيور من السماء، وتتهاوى معها مكانة لبنان البيئية.
وفي ظل هذا الواقع، يبرز دور الصيادين المستدامين والناشطين البيئيين، الذين يسعون إلى قلب المعادلة عبر التنظيم، والتوعية، وبناء شراكات مع البلديات والأجهزة الرسمية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ثروتنا البرية وحياتنا الطبيعية.
الانتهاكات بالجملة وقرار الوزارة «أولوية»
بالاستناد الى ما تقدّم، يقول رئيس مركز الشرق الأوسط للصيد المستدام، والمنسق الميداني للصيد المسؤول في جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL)، السيد أدونيس الخطيب لـ «اللواء»: «ننتظر قرار معالي وزيرة البيئة، الدكتورة تمارا الزين، لأنه يُعدّ الأساس في حماية الطيور، من خلال التنظيم والتشدّد الصارم في منع المخالفات».ويوضح: «لقد أدّى عدم فتح موسم الصيد خلال الفترة الماضية إلى زيادة المخالفات بشكل كبير، لأن الصيادين المستدامين الذين يساعدون وحدة مكافحة الصيد الجائر في رصد المخالفات وتحديد نقاط القتل العشوائي للطيور، التزموا بالمنع، فخسرنا في الكثير من المناطق العينَ المراقبة الساهرة. أما اليوم، فإننا ننتظر من معالي وزيرة البيئة فتح الموسم، والتشدّد الحازم في قمع المخالفات، بالتعاون بينها وبين وزارة الداخلية، ووزارة الدفاع، ووحدة مكافحة الصيد الجائر».ويكشف لـ «اللواء»: «لقد قمتُ بزيارتها أنا ورئيسة الوحدة شيرين بو رفول، وكانت وجهات النظر متطابقة تجاه ضرورة التنظيم، لا سيما أن تجربة المنع لمدة عشرين سنة قد فشلت، إلّا أن البعض كان يريد أن يُجرّب المُجرَّب».
لبنان ومسار الطيور «بخطر»!
ويؤكد أن: «لبنان يُعدّ ثاني أهم ممر لهجرة الطيور في العالم، وهو عنق الزجاجة للطيور المهاجرة بين أوروبا وأفريقيا في الخريف، والهجرة العكسية في الربيع. وبناء على ذلك، هناك مسؤولية كبيرة على لبنان الذي وقّع على اتفاقيات دولية عديدة لحماية الطيور البرية وعدم الاتجار بها، ولا يمكن تحقيق أي إنجاز دون التنظيم والتشدّد، وطبعا التوعية بالدرجة الأولى».ويضيف: «نعمل في الميدان كوحدة منذ عام 2018، ولدينا بيانات كبيرة تساهم في توجيه عملنا لتحقيق الإنجازات. وقد قمنا في بعض المناطق مثل إغبة في البقاع الغربي، بالتعاون مع الصيادين المستدامين وبعض البلديات، بالحد من التجاوزات، وحققنا نسبة نجاح وصلت إلى 75 في المئة، بشهادة منظمات محلية ودولية».
تعاون لردع المتجاوزين.. هل ينجّي القطاع؟
ويتابع: «من هذا المنطلق نعمل كشركاء مع جمعية SPNL ومنظمة CABS الدولية، والقضاء البيئي، والأجهزة الأمنية اللبنانية، والبلديات، بالإضافة الى الفعاليات في المناطق، والشخصيات الدينية والسياسية، من اجل مكافحة إبادة الطيور وتعزيز مفهوم حماية الطبيعة ورياضة الصيد المستدام، وهذه أول تجربة في العالم. لذا، الصياد الملتزم يكافح الصيد الجائر ويواجه عبث القواصين الذين يقتلون الطيور بشكل عشوائي في الموسم وخارجه، ويستخدمون وسائل ممنوعة مثل الصيد الليلي، والصيد بالشباك، والدبق».ويختتم حديثه قائلا: «أشكر جريدة «اللواء» على لفتتها الى موضوع الصيد الجائر، وهي ليست المرة الأولى التي تتواصل فيها معنا. ونؤكد أن دور الإعلام أساسي في التوعية والإضاءة على الانتهاكات ومحاسبة المخالفين».
الصيد العشوائي يهدّد الأرواح.. والمقترفون أحرار؟!
في جميع الأحوال، بعيدا عن أي التزام بالقوانين أو معرفة بأسس الصيد البري، يواصل بعض الأفراد ممارسة ما يُشبه «هَبَلية الصيد»، متجولين بأسلحتهم بين الأحياء السكنية والمناطق المخصصة للتنزه، غير مدركين خطورة ما يفعلونه. هؤلاء لا يعرفون حدود الأماكن المسموح بها للصيد، ولا الأنواع التي يُمنع استهدافها، في ظل غياب واضح لأي تأهيل أو متابعة من الجهات الرسمية.ولذلك، سُجلت في السنوات الأخيرة حوادث مؤلمة، نجمت عنها إصابات خطرة في العيون، نتيجة الرصاص الطائش أو الصيد في أماكن مكتظة بالمدنيين.
ومع أن الخطر لم يعد يهدّد الطيور فقط، بل امتد ليطال المواطنين، لا تزال الرقابة شبه غائبة، ووزارة البيئة لا تملك فرقا كافية للمراقبة أو حتى آلية واضحة لمنح التراخيص على أسس علمية.في المقابل، يتصرف البعض كما لو أن الغابات ساحة قنص مفتوحة، في ظل غياب التشدّد في التشريعات، وعدم فرض اختبارات جديّة قبل السماح بحمل السلاح والصيد. والمفارقة أن معظم المخالفات تمرّ بلا تحقيق، ما يُكرّس الفوضى ويُطلق النار على فكرة الصيد المسؤول من أساسها.وفي ظل هذا المشهد، يبقى السؤال الجوهري: من يضبط الفوضى قبل أن يتحوّل الصيد في لبنان من هواية إلى مصدر دائم للدمار؟