في عامٍ يُعدّ من الأكثر جفافاً، يقف لبنان، كما العالم أمام معادلةٍ مناخية مختلّة، حيث تبخل السماء بمائها، وتتصدّع التربة تحت وطأة العطش. فشحّ الأمطار هذا العام ليس مجرد رقمٍ في تقارير الطقس، بل إنذارٌ لما هو آتٍ: أزمةٌ تهدّد الزراعة، تضرب موارد المياه، وتفاقم هشاشة البيئات السكانية.وبلاد الأرز، كأرضٍ عتيقة تنبض بالحياة، تجد نفسها اليوم في قبضة مناخ متقلّب يحاكي مزاج بحرٍ هائج، تارةً يصمت حتى الجفاف، وتارةً يفيض فيغرق الحقول والمدن على حين غرّة. لم تعد الفصول تعرف حدودها، فالشتاء يزحف بهدوء كربيعٍ متردد، بينما تمضي الأمطار في مواسمها بلا انتظام، تاركةً ورائها أرضاً عطشى تتشقق تحت وطأة القحط، أو تُجرف بسيولٍ عمياء لا تحفظ ودّ الأرض ولا تعبأ بحصاد الفقراء.
كما ان الينابيع التي كانت تروي الزرع باتت تتراجع، والمياه الجوفية تنحسر كأنها تعود إلى أعماق النسيان، فيما الآبار في المدن الكبرى تسقي الظمأى بماءٍ زادت ملوحته مرارة. وعندما تمطر السماء أخيرا، لا تكون رحمةً بل سيفاً ذا حدّين، إذ تنهمر السيول على الجبال، تهدم وتقتلع، وتفيض على شوارع المدن كطوفانٍ عابث، لا يبقي سوى الخراب خلفه.والجدير بالذكر ان عام 2024 لم يكن إلّا مرآةً لما هو آتٍ، حين تحوّلت الأمطار إلى جرافات تقتلع المزروعات والخيم، وتجرف مأوى اللاجئين والمزارعين، لتتركهم في مهب الضياع. هكذا، بين قسوة الجفاف وغضب المياه، يعيش لبنان ككائنٍ عالقٍ بين نقيضين، يواجه مستقبله كما يواجه البحر عاصفةً لا يعرف إن كانت ستُغرقه أم تمنحه هدنةً قصيرة.لبنان: مناخ متوسطي جاف وحار
يوضح، أستاذ الجغرافية والعميد السابق لكلية الآداب وعضو المجلس الوطني للبحوث العلمية ومؤلف أطلس لبنان الدكتور علي فاعور لـ «اللواء» انه «بينما يتميّز لبنان بمناخه المتوسطي الجاف، نتيجة موقعه الجغرافي على ساحل البحر المتوسط، إلّا أنه يتعرّض لتحوّلات مناخية ناجمة عن تزايد سنوات الجفاف الناتجة من تأثير الصحاري المجاورة. هذا مع الأخذ بالاعتبار أن هناك تفاوتاً بين المناطق اللبنانية، إذ تلعب التضاريس في لبنان دوراً كبيراً في اختلاف كمية الأمطار بين منطقة وأخرى، نتيجة طبيعة لبنان الجبلية بحيث أن نحو ثلث مساحته تقع فوق مستوى ارتفاع 500م عن سطح البحر. وبالتالي يعتمد على تساقط الثلوج فوق الجبال المرتفعة، وهي التي تتحوّل الى مياه تتسرّب عبر الصخور الكارستية وتعمل على تغذية ورفع مستوى المياه الجوفية التي تستخدم لري المزروعات خلال أشهر الصيف، ما يساعد لبنان في مواجهة التقلبات المناخية وبخاصة انتشار ظاهرة الجفاف وارتفاع درجات الحرارة خلال أشهر الصيف الحارة. كما أن التغيّرات المناخية خلال السنوات السابقة، قد أثّرت في الكتل الهوائية وأنماط الطقس في المنطقة، ما ساهم في تراجع معدلات الثلوج، التي كانت تعتبر جزءا من هوية شتاء لبنان».
تراجع المعدلات السنوية لهطول الأمطار
ويشير الى انه «بينما تزداد التقلبات المناخية، تختلف معدلات الامطار في لبنان بين سنة وأخرى. وبحسب البيانات التابعة لمصلحة الأرصاد الجوية، فقد وصل معدل التساقط في لبنان إلى 656.08 ملم في عام 2022، مقارنة بـ 610.16 ملم في عام 2021. ليصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق في عام 2012، حيث تخطّت كمية الهطول أكثر من 1250 ملم، وأدنى مستوى قياسي عند 360.87 ملم في عام 1999».ويضيف «لكن البارز في توزيع الأمطار هو التفاوت الشاسع بين المناطق اللبنانية نظرا لطبيعة لبنان الجبلية، حيث ﻴﺘﺭاﻭﺡ ﻤﻌﺩل هطول الأمطار بين ٣٠٠ ﻭ٤٠٠ ملم في الداخل ﻭ٦٠٠ ﻭ١١٠٠ ملم في المناطق الساحلية، ﻭأكثر من ١٤٠٠ ملم في ﺃﻋﺎﻟﻲ فاريا وبشري. كما بلغت معدلات الامطار السنوية للعام الماضي: 716.5 ملم في طرابلس، و676.5 ملم في بيروت، مقابل 413 ملم في زحلة. وبينما يسجل اليوم انحباس الأمطار في بداية عام 2025، ثم انخفاض المعدل العام للتساقط في لبنان الى مستوى بين 240 و250 ملم، بينما كانت في العام الماضي تصل إلى حوالي 700 ملم، مما يعكس عجزاً كبيراً في المخزون المائي. كما يلاحظ تراجع في كمية الأمطار الهاطلة بالمقارنة مع السنوات السابقة، في طرابلس وزحلة وبيروت. حيث تمرّ سنوات قليلة بالأمطار وجافة (مثلاً عام 1960 دون 600 ملم)».
ويقول: «لأول مرة منذ عدة سنوات، وبسبب نقص المياه، حيث لا تزال كميات الأمطار أقل من 50% من المعدل المعتاد، فقد بلغت المتساقطات حتى 31 كانون الثاني 2025: طرابلس 278.1 ملم، بيروت 260.5ملم، زحلة 150.8 ملم. وهذا التراجع يمثل تهديداً حقيقياً لموارد المياه والبيئة في لبنان. خاصة أن بحيرة القرعون، لا تكفي لسدّ الفجوة في الموارد المائية، وكذلك بالنسبة لخزانات المياه الجوفية، فقد أعلنت مؤسسة «مياه بيروت وجبل لبنان»، في بيان، في كانون الأول/ديسمبر 2024، أنه قد انخفض منسوب مياه الينابيع بشكل كبير كما منسوب المياه داخل الآبار. وطالبت اعتماد برنامج تقنين قاسٍ في توزيع المياه في المناطق كافة ولا سيّما في كسروان والمتن والعاصمة بيروت».
الاحتباس الحراري… تهديدٌ متصاعد يغيّر ملامح الأرض
ويبيّن ان «العالم يشهد تقلبات مناخية حادّة مع احتباس غير منتظم للأمطار، حيث يتركز الهطول في فترات قصيرة، ما يزيد من الأزمات البيئية. فقد ارتفعت حرارة الأرض بمعدل 0.74 درجة خلال القرن العشرين، متجاوزة 1.5 درجة في المنطقة المتوسطية، ما ينعكس على لبنان بخسائر اقتصادية متوقعة تصل إلى 14% من ناتجه المحلي بحلول 2040، و32% بحلول 2080. فضلا عن ان الحرارة المرتفعة، التي تتجاوز 40 درجة أحياناً، تسببت بحرائق مدمرة في الأعوام الماضية، فيما تتفاقم مشكلة التلوث بفعل انبعاثات المصانع، المولدات، ووسائل النقل، ما يؤدي إلى أمراض مزمنة وزيادة الوفيات في المدن الكبرى. كما يهدد الاستخدام العشوائي للمياه والازدحام السكاني بجعل التلوث أزمة مزدوجة في البر والبحر، ليظل لبنان والشرق الأوسط في مواجهة تغيّرات مناخية قد تعيد تشكيل مستقبل المنطقة».
تدهور وأمراض وأزمة مياه متفاقمة
وبكشف ان «لبنان يحتلّ صدارة الدول الأكثر تلطّخا في غربي آسيا، مع ارتفاع معدلات السرطان نتيجة تدنّس الأنهار والمياه الجوفية، خاصة في حوض الليطاني وبحيرة القرعون. كما يعاني من إجهاد مائي خطر، إذ حلّ في المرتبة الثانية عالمياً بعد قطر عام 2019، نتيجة كثافة سكانية مرتفعة تخطّت 7.5 مليون نسمة، مع تزايد أعداد النازحين، ما أدّى إلى نقص المياه وارتفاع ملوحتها وتلطّخها. اذ يؤدي تصريف مياه الصرف الصحي في الأنهار والمياه الجوفية إلى مخاطر صحية وأمراض معدية، خاصة بين الأطفال، مما يزعزع الأمن الغذائي والصحي. وفقا لمنظمة الصحة العالمية، يتصدر لبنان بلدان غرب آسيا في معدلات السرطان. كما أن 79% من اللبنانيين يرون التغير المناخي خطراً داهما، بينما يشعر 90% بالقلق من تلوث المياه والهواء والنفايات في المدن الكبرى، حيث تحولت الأنهار إلى مكبات للنفايات، مما يفاقم الأزمة البيئية والصحية في البلاد».
لبنان في قلب العاصفة المناخية… حرائق، كوليرا، وأزمة مياه متفاقمة
ويستكمل «يجابه لبنان أسوأ أزماته الإنسانية، إذ أدّى شحّ المياه إلى تفشي الكوليرا لأول مرة منذ ثلاثة عقود، بحسب وزير الصحة في مؤتمر المناخ (COP 28). في مواجهة هذه التحديات، تم تجهيز 50% من المستشفيات الحكومية و70% من مراكز الرعاية الصحية بالطاقة الشمسية، كما أُطلقت مبادرات بيئية للحد من الانبعاثات وتحسين الأمن الغذائي. وقد شهد لبنان منذ 1970 ارتفاعا متسارعا في درجات الحرارة بمعدل 0.3 درجة مئوية لكل عقد، متجاوزا المتوسط العالمي. كما لامست الحرارة 40 درجة على الساحل و43 في البقاع في تموز 2024، ما أدّى إلى حرائق مدمرة اجتاحت الأحراج والمناطق الزراعية. رغم توقعات بزيادة الهطول المطري، فإن التغيّر المناخي يهدّد الأمن الغذائي والمائي، ما يستدعي خطة استباقية لحماية المياه ومكافحة التلوث. مع التوقعات بارتفاع الحرارة بدرجتين مئويتين بحلول 2050، يصبح التحرك الجاد لتقليل الانبعاثات والتكيّف مع التقلبات المناخية ضرورة ملحّة، وسط مطالبات دولية بالتزام أكبر للحدّ من الاحتباس الحراري».
وينوّه فاعور في الختام الى انه «في حين ان تغيّر المّناخ يعتبر التحدّي الكبير الذي يواجه الإنسان على كوكب الأرض، نحن الآن أمام لحظة حاسمة في تاريخ البشرية، وهي محاولات جامعة هدفها الحدّ من ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية في هذا القرن إلى أقل من درجتين مئويتين، حيث من المتوقع أن تزيد انبعاثات الغازات الدفيئة في عام 2030، استنادا إلى السياسات المعمول بها، بنسبة 16% مقارنة بما كان معتمداً في الاتفاق عام 2015. واليوم، تبلغ الزيادة المتوقعة 3 في المائة مع مواصلة الجهود لوضع العالم على الطريق الصحيح للحدّ من ارتفاع درجة الحرارة إلى 1.5 درجة في بعض الدول لحماية الحياة على كوكب الأرض».