أضحت منصات التداول الزائفة، المتنكرة في ثوب «الاستثمار المضمون» أو «البرامج الآلية المدرة للدخل»، خطرا مجتمعياً واقتصادياً متزايدا، يصعب على المستثمرين تجنبه، خصوصا مع تحولها إلى أداة رئيسية في الاحتيال المالي الإلكتروني (Cyber-Financial Scams). ما يميز هذا النوع من النصب هو دقة هندسته النفسية، التي تستغل رغبتين أساسيتين: الحاجة إلى المال، والجهل بآليات السوق. في المقابل، لا تقدّم هذه المنصات أي ضمانات فعلية، بل تبيع وهماً بالأرباح الخيالية، لتتحول سريعا إلى مخططات هرمية (Ponzi Schemes)، تموّل الأرباح الوهمية للمستثمرين الأوائل من أموال الضحايا الجدد، قبل أن تنهار الفقاعة وتختفي المنصة مع كامل محتوياتها وأموالها المسروقة.
الخدعة الكبرى تضرب الأسواق الاستثمارية الرقمية
في سياق متصل، تقوم منصات تداول تحمل أسماء مثل «Tarma» و«TARM AI» بعمليات نصب لمدخرات المتداولين، لتختفي بعد فترة حاملةً معها الأرباح الوهمية للمستثمرين. وتشير التحقيقات والتحذيرات المنشورة على المنتديات والمواقع المالية إلى أن هذه التطبيقات أو المنصات لا تملك أي ترخيص رسمي ولا وجودا موثوقًا به لها على المتاجر الرقمية المعروفة. كما تظهر تجارب المستخدمين أنها تطلب إيداع أموال، ثم تمنع سحبها عند زيادة الرصيد، ما يجعل التعامل معها محفوفا بالمخاطر ويصنفها ضمن المنصات الاحتيالية المحتملة.
من جهة ثانية، يحذر خبراء ماليون وأمنيون من التعامل مع تطبيقات التداول غير المرخّصة، مؤكدين ضرورة التأكد من التراخيص الرسمية لأي منصة قبل إيداع الأموال، لتفادي الوقوع ضحية عمليات احتيال مماثلة
المئات ضحايا النصب الإلكتروني
من جانبها، تروي السيدة فاديا ش. لـ «الديار» تجربتها قائلة: «بدأت الاستثمار عبر تطبيق التداول المسمى «تارما» بمبلغ 900 دولار، وبدأت أموالي تتضاعف تدريجيا حتى وصلت إلى حوالي 3000 دولار خلال نحو ثلاثة أشهر. لكن قبل أسابيع، وعندما حاولت سحب المبلغ، فوجئت بإغلاق التطبيق واختفائه بالكامل، ما أدى إلى خسارتي المبلغ بالكامل».
وتضيف: «لم أترك وسيلة للتواصل مع إدارة التطبيق، لكنهم طلبوا مني دفع 100 دولار لاسترجاع أموالي وإعادة فتح التطبيق، إلا أن هذا المبلغ أيضا تم النصب به».وتؤكد أن: «هذه الحادثة توضح أن التطبيق كان يستهدف استغلال المتداولين عند زيادة أموالهم، ثم يغلق فجأة ليستولي على الأموال».
الأجهزة بدأت بالتقصّي!
وفي هذا السياق، يؤكد مصدر أمني رفيع المستوى لـ «الديار»: «وجود شركات وهمية تعمل في نطاق التداول والاستثمار، احتيالية بالكامل. وتبدأ هذه الشركات نشاطها على أساس أنها قانونية وموثوق بها، وتكسب ثقة المستخدمين، قبل أن تفاجئهم بإلغاء جميع العمليات وإغلاق التطبيقات الخاصة بها».
ويضيف المصدر: «تحدث الكثير من عمليات الاحتيال في هذا المجال، لذلك نحذر المواطنين من الانجرار وراء أي تطبيقات غير معروفة أو مشبوهة، وأدعو الجميع إلى توخي الحذر وعدم المجازفة بالأموال في بيئات غير موثوق بها».ويكشف المصدر أيضا: «تقوم الجهات المختصة حاليا بإجراء تحقيقات دقيقة حول هذه الظاهرة، مؤكداً حرص الأجهزة الأمنية على متابعة كل ما يتعلق بالاحتيال المالي ضمن مجال التداولات الرقمية».
تعامل غير آمن بامتياز
وفي هذا الصدد، يشير خبير في المداولة الرقمية ومتداول سابق لـ «الديار» إلى أن: «الخطر الأكبر يكمن في أن هذا النوع من «التداول» غير آمن بالأساس وغير مرخّص، ويشكّل تهديدا على عدة مستويات، ويتم ذلك من خلال الاتي:خسارة رأس المال بالكامل: لا يقتصر الأمر على المخاطر الطبيعية في سوق التداول التقليدي، بل غالبا ما ينتهي بسرقة كاملة للمبالغ المودعة، بما في ذلك الأرباح الوهمية المتراكمة، ما يحوّل الاستثمار الوهمي إلى خسارة نهائية للمستخدمين.
انتشار الترويج عبر وسائل التواصل: تعتمد هذه المنصات بشكل كبير على الإعلانات الممولة والدعايات الشخصية عبر مؤثرين أو شهادات مزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي، لتوحي بالشرعية والموثوقية، مستغلين ثقة المستخدمين بالبيئة الرقمية.
تبييض الأموال والاحتيال المنظم: ترتبط هذه المنصات عادة بشبكات احتيال منظمة دوليا، تستخدم الأموال المنهوبة لأغراض غير قانونية، مما يعرّض الضحايا، عن غير قصد، لمخاطر التورط في عمليات مالية مشبوهة.
تدمير الثقة بالاقتصاد الرقمي: تؤدي هذه الممارسات إلى تشويه صورة التداول والاستثمار الشرعي عبر الإنترنت، ما يدفع الأفراد إلى العزوف عن الاستثمار في القطاعات الرقمية الحقيقية والمستقبلية.
لبنان.. بيئة خصبة للاحتيال
ويعتبر الخبير: «أن معالجة هذه الأزمة تتطلب جهدا تشريعيا وتوعويا عاجلًا، لقطع الطريق على المحتالين، وحماية المواطنين، وإعادة الثقة للبيئة الاستثمارية الرقمية في المنطقة».
ويعود ليشير إلى أن: «الحصول على بيانات رسمية ودقيقة حول ضحايا منصات التداول الوهمية صعب جدا، وذلك بسبب النقص في الإبلاغ (Under-reporting)، والانتشار العابر للحدود، فضلا عن غياب جهة رسمية موحدة».
حالات موثقة
ويبين: «رغم عدم وجود إحصاءات سنوية شاملة، تبرز الحوادث الكبرى الموثقة أن الخسائر تتعدى مئات الملايين من الدولارات في عمليات فردية، مثل:حادثة Binancesfund (2021): إحدى أكبر عمليات الاحتيال التي استهدفت المستثمرين اللبنانيين عبر منصة عملات رقمية وهمية تُعرف باسم «Binancesfund»، ولا علاقة لها بـ Binance العالمية. وقد تخطت الخسائر في هذه العملية وحدها نحو 300 مليون دولار، وفق تقديرات بعض الخبراء، وكان عدد الضحايا كبيرا جدا، بعضهم فقد كامل مدخراته.
آلية الاحتيال: اعتمدت على مخطط بونزي (Ponzi Scheme)، حيث كانت الأرباح الموعودة تُموَّل من رؤوس أموال المستثمرين الجدد.عصابات الاحتيال المنظمة: تشير بلاغات قوى الأمن الداخلي اللبنانية إلى متابعة شبكات نصب منظمة تستخدم أساليب متعددة، بما في ذلك عروض الاستثمار عبر الهاتف والرسائل النصية، ما يعكس ضخامة عدد الشكاوى المقدمة سنويا.
ويختم: «لا توجد ارقام دقيقة في لبنان، لكن تظهر المؤشرات أن الضحايا بالآلاف، وأن المبالغ المسروقة تُقدّر بمئات الملايين من الدولارات خلال السنوات القليلة الماضية، في ظل الحاجة الماسة إلى العملة الصعبة في البلاد».
اين التشريعات القانونية من مسألة التداول اليوم؟ يجيب المحامي عبادة أن: «لبنان يشهد انتشارا مقلقا لهذه التطبيقات، نتيجة تقاطع عوامل اقتصادية وتشريعية تُهيئ بيئة مثالية للمحتالين، وذلك للأسباب الاتية:
الانهيار المالي والحاجة إلى «الفرش دولار»: مع الأزمة الاقتصادية وتدهور قيمة الليرة وتجميد الودائع المصرفية (الكابيتال كونترول غير الرسمي)، يبحث اللبنانيون، ولا سيما الشباب، عن أي مصدر للدخل بالدولار الأمريكي، ما يجعلهم أهدافا سهلة للوعود الخيالية بتحقيق أرباح سريعة ومدخول إضافي.
الفجوة القانونية وغياب الرقابة: يفتقر لبنان إلى هيئة رقابية مالية مركزية وقوية مختصة بالتداول الإلكتروني خارج النظام المصرفي التقليدي، إضافة إلى ثُغر تشريعية في معالجة الجرائم الإلكترونية والمالية. هذا الفراغ القانوني يسمح للمنصات الوهمية بالعمل دون رادع، ويصعّب على الضحايا استرداد أموالهم قانونيا».


