لم يعد القطاع التربوي في لبنان يحتمل المزيد من التجارب الفاشلة ولا السياسات الترقيعية التي تتعاطى مع التعليم الرسمي وكأنه ملف ثانوي في إدارة الأزمات الوطنية. فبينما تتبدّل الحكومات وتتناوب الوجوه الوزارية على وزارة التربية، يبقى المشهد نفسه: أساتذة ينتظرون حقوقهم في طوابير الوعود، ومدارس تُغلق أبوابها تحت وطأة الإضرابات، وتلامذة يُتركون فريسة للفراغ والضياع.
اليوم، مع انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة واستلام وزيرة جديدة حقيبة التربية، كان من الضروري أن يُطوى جزء من صفحة المعاناة المتراكمة، إلّا أن الوقائع على الأرض تؤكد أن الأزمة لم تجد بعد طريقها إلى الحل الجديّ. بيان «رابطة الأساتذة المتعاقدين» قبل ساعات، الذي أعلن استمرار الإضراب في المدارس الرسمية، ليس سوى مرآة تعكس عجز الدولة المزمن عن التعامل مع قطاع يُفترض أنه شريان الحياة لأي مجتمع.ففي بلد لا يملك رفاهية خسارة المزيد من أجياله، يقف التعليم الرسمي اليوم عند مفترق خطر: هل يُعاد الاعتبار لهذا القطاع، أم يترك لمصيره المحتوم وسط دوامة الإهمال والتجاهل؟ فالإضرابات، التي أضحت أشبه بمحطات ثابتة في السنة الدراسية، لم تعد مجرد احتجاجات مطلبية آنيّة، بل تحوّلت إلى عنوان دائم للأزمة العميقة التي تضرب بنية التعليم الرسمي من جذورها.
بالتوازي، فان الحلول التي يجري تداولها، تبدو حتى الآن أقرب إلى المسكّنات منها إلى المعالجات الجذرية. فلا المساعدات الاجتماعية التي وُعد بها المتعاقدون صُرفت بشكل منصف وعادل، ولا الضمانات التي يحتاجها الأساتذة للاستمرار في عملهم تحققت على أرض الواقع، مما يطرح علامات استفهام كبرى حول جدية السلطة التنفيذية في إنقاذ ما تبقى من هيبة المدرسة الرسمية.في ظل هذا المشهد، تواجه «التربية» اختباراً حقيقياً: إما أن تنتقل من مرحلة التصريحات إلى مرحلة الأفعال، وإما أن تضاف الى قائمة طويلة من المسؤولين الذين ساهموا في تفاقم أزمة التعليم الرسمي. أما المراهنة على صبر الأساتذة والطلاب، فهو رهان خاسر، لأن سنوات الإضرابات المتكررة قد خلّفت جروحاً عميقة لن تلتئم بسهولة.من هنا، ينطلق هذا التحقيق في فتح ملف الإضراب المستمر، والغوص في أسباب الأزمة الحقيقية، وعرض نتائجها الوخيمة على مستقبل الأجيال، مع مساءلة جدية للمسؤولين المعنيين عن دورهم في ما وصل إليه هذا القطاع من تراجع واهتراء.
العصيان التربوي سببه تغيير آلية الدفع!
في ضوء ما تقدّم، توضح ممثلة المتعاقدين في التعليم الثانوي، منتهى فواز، لـ «اللواء»، «نحن الآن في مرحلة عصيان تربوي في التعليم الثانوي، بمختلف التسميات، لأننا بدأنا العام الدراسي على أساس منحنا 375 دولاراً شهرياً، مرتبطة بالساعات المنفذة، وأجر الساعة 660 ألف ليرة لبنانية.
ولكن منذ قدوم الوزيرة الحالية، تغيّرت آلية الدفع، ولم يعد هناك أي سلف خزينة، حيث تبدّلت طريقة الدفع بالكامل، وحتى الآن لم نتقاضَ مستحقاتنا بسبب هذا التحوّل. وقد أعطتنا 14 دولارا و6 سنتات عن كل ساعة اعتبارا من أول شباط، كما أنه لا توجد لدينا ساعات عمل لأن طلاب الترمينال يغادرون إلى منازلهم في أيار، ولا يمكننا القيام بالمراقبة في حزيران. وحرمتنا من إنتاجية الصيف، أي أن الـ 375 دولارا التي كنا نتلقّاها كانت مقسّمة على 11 شهرا».
الوعود غير المنفذة تُدهور أوضاع التربويين المعيشية
وتضيف: «نحن الآن في مرحلة عصيان تربوي، لأن الوزيرة وعدتنا بإعادة منحنا حقوق الصيف تحت مسمّى آخر، وأصدرت بياناً شمل سائق الحافلة ومساعده وموظفي المكننة وعمال النظافة وكل العاملين في المؤسسة التربوية، باستثناء المتعاقدين بالساعة. لذلك، قمنا بتنفيذ الإضراب، ولن نشارك في الانتخابات أو الامتحانات الرسمية حتى تُسترجع لنا حقوق إنتاجية الصيف. وقد أسميناها «المساعدة الاجتماعية في فصل الصيف»، التي من شأنها تعويض خسارتنا في شهر ونصف من الحرب، بالإضافة إلى الغلاء المعيشي وانهيار العملة. فكانت ساعتنا تدفع بـ 24 دولارا، ثم هبطت إلى 7 دولارات، واليوم أصبحت 14.6 دولارا».
تعديل مرسوم بدل النقل «حق»
وتكشف: «قلنا للوزيرة، إذا منحتنا 100 دولار عن الساعة، فهذا لم يعد مفيدا لنا، لأن الساعات التعليمية المتبقية قليلة. نحن نتطلّع إلى قبض أجورنا شهرياً، أي 375 دولاراً، غير الساعات المنفذة، التي تُعتبر مستحقات مستقلة. كما طالبنا بتعديل مرسوم بدل النقل ليصبح عن كل يوم حضور، لكننا لم نجد تجاوبا في هذا الإطار. فضلاً عن أن الوزيرة تتعامل معنا وكأن ليس لديها الوقت للرد على أي شخص، والتواصل عبر مستشاريها، إلى جانب أنها حظرت غالبية النقابيين من تطبيقات هاتفها».وتقول: «للأسف، لم نتلقَّ رواتبنا خلال عيد الفطر، واكتفت الوزيرة ببيان اعتذار بأنها لم تتمكن من دفع أجورنا. وبالتالي لا نستطيع إبراز هذا البيان في المحلات لشراء احتياجاتنا اليومية والأساسية. بل أكثر من ذلك، تخيّلوا أن أستاذاً متعاقداً لم يتلقَّ أي مبلغ منذ 70 يوماً، ومن وقت مغادرة وزير التربية السابق عباس الحلبي، لم نأخذ حقوقنا المالية من بداية هذا العام الأكاديمي».وتختم فواز: «مَنحنا وزير التربية السابق مرسوم بدل نقل عن 3 أيام حضور، وقد اتفقنا معه على تعديل هذا المرسوم. ومع انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، طلبنا من الوزيرة الحالية تعديل المرسوم ليصبح عن كل يوم حضور. ونحن نتقاضى بدل النقل 380 ألف ليرة، علما بأن القطاع العام يتقاضى 450 ألفا. كما طلبنا تعديل قيمة بدل النقل ليصبح عن كل يوم حضور، بدلاً من 3 أيام، لأن المرسوم مرتبط بعدد الساعات. على الرغم من اننا نتنقل من ثانوية الى أخرى، ومع ذلك يحسب لنا بدل النقل عن ثانوية واحدة فقط، أي بما يعادل يوماً واحداً. وهذا لم يشكّل عائقاً لنا، وانما الفكرة تتمثل لماذا سنقبض 380 بدلا من 450 ولماذا لا يعدل ليصبح عن كل يوم حضور؟».
مطالبة رفع أجر الساعة وتغيير آلية الدفع
من جهته، يقول رئيس لجنة المتعاقدين في التعليم الأساسي في لبنان، الدكتور حسين محمد سعد، لـ «اللواء»: «في البداية، كنا كلجنة للأساتذة المتعاقدين، ومن خلال سلسلة لقاءات، أي ثلاثة اجتماعات مع الوزيرة، نطالب برفع أجر الساعة، والذي كان في عهد الوزير عباس الحلبي. وقد رفعنا أجر الساعة إلى حدود 4 دولارات، وهو ما اتفقنا عليه في بداية العام الدراسي مع الوزير عباس الحلبي، وكان هناك بدل إنتاجية قدره 375 دولارا يتقاضاه الأستاذ بحسب عدد الساعات التي ينفذها شهرياً. وقد تم التفاهم على ذلك، وتابعنا العمل على هذا الأساس حتى تأليف الحكومة الجديدة وتعيين الوزيرة ريما كرامي، حيث تفاجأنا بتغيير آلية الدفع بعد أول جلسة لمجلس الوزراء، إذ أُلغي مبلغ الـ 375 دولارا كإنتاجية، ورفعوا أجر الساعة إلى 4 دولارات»
«بدل المثابرة» مقابل الإنتاجية الصيفية
ويتابع: «في اللقاءات التي أجريناها مع الوزيرة، قالت إنها ستحاول منحنا بدل المثابرة، على غرار ما يُمنح للقطاع العام. وبالفعل، قررت إضافة 4 دولارات كمثابرة عن كل ساعة من ساعات التعاقد، بحيث أصبح الأستاذ يتقاضى 4 دولارات كأجر عن الساعة، و4 دولارات إضافية بدل مثابرة، أي أن أجر الساعة بالكامل بات 8 دولارات. لكن ما فعلته معنا كأساتذة متعاقدين هو أنها سحبت منّا الإنتاجية خلال فصل الصيف. وللأسف، فإن هذا المرسوم نفسه عملنا به مع الوزير عباس الحلبي. وكانت الأسباب الموجبة حينها، التي رفعها الوزير الحلبي إلى مجلس الوزراء، هي ضرورة الحفاظ على الدور المهم الذي يؤدّيه الأساتذة المتعاقدون في تأمين استمرارية سير التدريس في المدارس الرسمية، وفي ضوء انقطاع مداخيل هذا الأستاذ المتعاقد أثناء فصل الصيف، وعلى أساس معاملتنا مثل المعاملة التي يحصل عليها أساتذة الملاك في الدولة، أي أن تُعطى مساعدة اجتماعية شهرية للأساتذة المتعاقدين خلال أشهر تموز وآب وأيلول. وقد تم العمل بهذا العام الماضي، ونحن استناداً إلى ذلك، حاولنا العمل على الأمر مع الوزيرة الحالية».
الإضراب احتجاجاً على سياسة الوزارة
ويختم حديثه: «لقد أصررنا على هذه المسألة، ولذلك قمنا بالإضراب منذ 2 نيسان حتى اليوم. وأفضل أن أقول إنه احتجاج تربوي على سياسة وزارة التربية، التي تقدّم لنا دائماً وعوداً متكررة بالقبض الشهري قبل عيد الفصح، ولكن للأسف، لم يحدث هذا الأمر».