اذا رددنا مثلما يردد الكثيرون “انه القضاء والقدر”، من البديهي أن نتساءل لماذا حدث ذلك لطائرة الرئيس ووزير الخارجية وحدها، في المكان الأكثر تعقيداً، وفي الزمان الأكثر تعقيداً. أعداء النظام يشيرون الى الماضي القضائي لابراهيم رئيسي الذي يعتبرونه مروعاً. لكن من التقوا به يثنون على عقلانيته وانفتاحه، وهو الرئيس الأعلى السلطة التنفيذية التي تواجه طوفاناً من المشكلات الداخلية. المشكلات الخارجية بين يدي آية الله خامنئي.
انها الطائرة الرئاسية أيها السادة. اذ ندرك التبعات القاتلة للعقوبات الغربية، أوضحت المعلومات أن الطائرة من طراز “بل ـ 112” التي أنتجتها الشركة الأميركية “فورت وورث” عام 1968، وكانت تعرف بـ “دبور الجحيم” (لاحظوا هول التسمية)، أي أن عمرها 56 عاماً، دون أن يكون بالامكان شراء قطع تبدبل أصلية لها.
واذا كانت لا تزال صالحة، كيف يمكن للسلطات المعنية بأمن الرئيس وصحبه، أن توافق على انطلاقها من حدود اذربيجان الى تبريز في ظروف ضبابية عاصفة، وفوق الغابات والتلال وحتى الجبال، مع بديات حلول الظلام. هل كانت أوامر رئيس الدولة أم كانت أوامر القضاء والقدر؟
بحسب الدستور الايراني، لا مشكلة في الغياب المفاجئ لرئيس الجمهورية، ولا ندري اذا كانت اصبع المرشد تتجه الى محمد باقر قاليناف، رئيس مجلس الشورى، بالماضي المثقل بالمهمات الصعبة، أو بالنائب الأول للرئيس محمد مخبر الذي يحظى برضى الولي الفقيه. هنا لسنا في لبنان، لتكون ولادة الرئيس من الخاصرة، بالأحرى من طرابيش القناصل.
لعل المشكلة في غياب وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان الذي، بالرغم ممن يشككون في أدائه، تم اختياره من كبار القوم، من بينهم قاسم سليماني، وهو الذي يعرف بعلاقته الوثيقة بقادة الحرس الثوري. رجل وصفته التعليقات الصحافية بأنه يتقن اللعب بأعصاب الديبلوماسيين الأميركيين، ولديه الصلاحيات التي مكّنته من عقد علاقات شخصية مع شخصيات دولية وعربية ولبنانية. أي انه الشخص الذي يفترض الاصغاء لكل كلمة يتفوه بها.
معلومات موثقة تؤكد أنه كان، في هذا الوقت بالذات، يعقد محادثات فائقة الأهمية (وشكلاً غير مباشرة) مع الأميركيين حول ضبط الايقاع (ايقاع الحرائق) في الشرق الأوسط. ما دام هناك تقاطع ما في وجهات النظر بين واشنطن وطهران حول احتواء الجنون “الاسرائيلي”، وبعدما بدا جليّاً أن بنيامين نتنياهو جاهز لاحراق الشرق الأوسط من أجل البقاء في السلطة، لهذا وصفه القطب السياسي الفرنسي المعارض جان ـ لوك ميلانشون بـ “نيرون القرن”، مع الفارق بين القيصر الذي قيل إنه كان يعزف على القيثارة وهو يرى روما تحترق، وبين زعيم الليكود الذي لم يتوقف عن قرع الطبول لكي تحترق المنطقة.
هنا النقطة الغامضة. محادثات أميركية ـ ايرانية بالتوازي أو بالتزامن مع محادثات جيك سوليغان، مستشار الأمن القومي الأميركي والأمير محمد بن سلمان ناقشا خلالها “الصيغة شبه النهائية للاتفاقات الاستراتيجية بين البلدين، والتي قارب العمل على الانتهاء منها”، وهي تعدّ جزءاً رئيسياً من جهود واشنطن للتوصل الى اتفاق بلحظ التطبيع بين السعودية و “اسرائيل” بحسب قناة “الحرة” الأميركية.
هنا اللحظة الجيوسياسية في ذروة احتدامها. من مصلحة الايرانيين اعادة انتخاب جو بايدن، لكنهم ليسوا من النوع الذي يرمي أوراقه في الهواء. كيف يمكن أن يعطوا شيئاً للرجل، ليفاجؤوا بدونالد ترامب يحل محله في البيت الأبيض، ولو في ظل البنادق (بعدما دافع في كلمة أخيرة له عن حامليها).
بالتأكيد أن الرئيس الأميركي بحاجة الى ضربة مسرحية (un coup de theatre) تؤدي الى تعويمه اثر غرقه في رمال ودماء غزة. وهو بعث بسوليفان الى “تل أبيب” بعد الرياض ليقدم ضمانات لنتنياهو بالبقاء، مقابل دعم “اللوبي اليهودي” له (لاحظوا مدى الزبائنية). أما الهدية الكبرى أو الرشوة الكبرى، فهي في التطبيع مع السعودية بالتداعيات المدوية على المسارات الاستراتيجية.
المهم أن يوافق زعيم الليكود، ولو تكتيكياً، على اقامة الدولة الفلسطينية. ولكن هل يمكن لولي العهد السعودي القبول بتلك الخدعة، أياً يكن الوعد أو الوعيد الأميركي؟
قد تكون النقطة المحورية في رحيل رئيسي كونه الخليفة المنتظر لآية الله خامنئي. الخسارة في رحيل عبد اللهيان، لا ندري اذا كان تكليف علي باقري كني، وهو ديبلوماسي محترف، تسيير أعمال الوزارة، خطوة باتجاه تعيينه خليفة للوزير الراحل، في مرحلة قد تكون الأكثر حساسية في تاريخ الديبلوماسية الايرانية. ربما الأكثر حساسية في التاريخ الاستراتيجي للمنطقة.