المصدر: نداء الوطن – زيزي إسطفان
في حين يحتفل العالم في الثالث من حزيران باليوم العالمي للدراجات الهوائية، يستعد لبنان لزمن قد تصبح فيه الدراجة الهوائية وسيلة النقل الوحيدة المتاحة للمواطنين مع ارتفاع سعر البنزين المتوقع في حال رفع الدعم عن المحروقات. ولبنان الذي لم يعتد استباق الحلول وينتظر وقوع الفاس بالراس حتى يسارع الى البحث عن ترقيعات يسد بها ثقوب مصائبه، لم يتحضّر يوماً كما يجب ليكون بلداً صديقاً للدراجات الهوائية رغم العديد من المحاولات الفردية، ولكن ربّ ضارة نافعة تجعل أزمة البنزبن صحوة لثقافة الدراجات.
ليس حلم لبنان التشبه بهولندا التي يفوق عدد دراجاتها الـ18 مليوناً عدد سكانها، ولا رؤية وزرائه وناسه يتوجهون الى أعمالهم على الدراجة الهوائية بحكم الثقافة والوعي البيئي والصحي كما في بريطانيا، ولكن يمكن أن يحلم اقله بأن يسير على خطى العاصمة الأثيوبية آديس ابابا التي استحدثت اكبر مسار للدراجات في أفريقيا لتسهل على أبنائها الانتقال وسط زحمة المدينة او ينظر الى أقصى الشرق نحو مانيلا عاصمة الفيليبين التي تعتمد الدراجة الهوائية كوسيلة النقل الأوفر لفئات الشعب الفقيرة والمتوسطة. بين طرفي النقيض هذين أين يقف لبنان؟
دراجات “الشرطة المجتمعية”
تباشير تعميم استخدام الدراجات الهوائية بدأت تتخذ شكلاً رسمياً مع إطلاق عمل دوريات الدراجات الهوائية في السرية الأولى في قوى الأمن الداخلي في فصائل رأس بيروت، مينا الحصن الرملة البيضا والروشة بالتعاون مع فريق دعم بريطاني في شهر أيار المنصرم لتشمل معظم شوارع بيروت والكورنيش البحري بعد أن كانت فصيلة الأشرفية قد بدأت هذا المشروع سابقاً وقبلها فصيلة راس بيروت. وقد أفادنا مصدر أمني عن المشروع بأنه يأتي ضمن مفهوم “الشرطة المجتمعية” الأكثر قرباً من الناس وهو ابداً ليس نتيجة أزمات البنزين المتلاحقة كما يشاع بل ان العمل عليه بدأ منذ أكثر من سنة. وهذه التجربة المميزة في بيروت والتي يفخر بها الأمن الداخلي تؤمن تواجداً فعالاً للعناصر الأمنية يتيح لهم تدخلاً سريعاً عند الحاجة وتلبية اسرع كما يسمح لهم برؤية تفاصيل قد لا تراها الدوريات الآلية او الوصول الى اماكن قد لا تستطيع الوصول إليها. فالدرّاج قادر على التدخل بسرعة في مهام عديدة والتحول من رجل أمن يلاحق عمليات النشل مثلاً او يراقب التجمعات المشبوهة الى شرطي سير يساهم في التخفيف من الزحمة او مساعدة الناس والسائحين في الطريق. وإذا نجحت هذه المبادرة فإن فائدتها كبيرة على المواطنين في الشوارع والأحياء رغم ما تحمله من تعب بالنسبة للعناصر.
تعميم ثقافة الدراجات
السيد جواد سبيتي صاحب ومؤسس مشروع Beirut By Bike الذي كان له الفضل في إعادة إطلاق ثقافة الدراجات الهوائية في بيروت بعد عودة السلم إليها في العام 2000 يؤكد على أهمية الدور الذي تتخذه الدراجات في مختلف أنحاء لبنان والدليل على ذلك نشوء جمعيات وتجمعات كثيرة في المدن والقرى اللبنانية لنشراستخدام الدراجات للترفيه والاستخدام العملي. من صور الى النبطية وبشامون والشويفات وعاليه وزحلة وجونية وجبيل والبترون وطرابلس والمينا والبقاع الغربي صارت الدراجات موجودة سواء بسعي من البلديات او عبر الجمعيات. ولكن معظمها لا يزال حتى اليوم مخصصاً للنشاطات الترفيهية واستكشاف المدن والمناطق ولم تتحول بعد إلى وسيلة للتنقل العملي داخل المدن إلا نادراً. ومفهوم الدراجة التشاركية كما هو معروف في الغرب حيث يتم استئجار دراجة من محطة خاصة والانتقال بها الى الوجهة المقصودة ثم تركها هناك في مرآب خاص، ليس معروفاً بعد في لبنان وقد تمت تجربته على نطاق ضيق في مدينة جبيل إلا انه توقف بعد فترة لأسباب أمنية واقتصادية.
يرفض السيد سبيتي مقولة ان لبنان ليس بلداً صديقاً للدراجات بل على العكس يؤكد قائلاً: “طقس لبنان مثالي للدراجات حيث لا حر شديد ولا أمطار او ثلوج لفترات طويلة. كما ان تضاريس بيروت سهلة والخط الساحلي من الحدود الى الحدود ممتاز للدراجات، حتى المرتفعات اللبنانية لا تتطلب جهداً كبيراً جداً للتنقل فيها بالدراجات”.
حين نسأل عن انتفاء وجود خط خاص بالدراجات في شوارع بيروت التي احتلت السيارات طرقاتها وأرصفتها وصار السير فيها متوحشاً خطراً يجيب سبيتي قائلاً: “الأمر ليس بالصعوبة التي نتصورها ويمكن ابتكار مسارات خاصة للدراجات بشكل سهل ومدروس. وقد سبق لنا وبالتعاون مع إحدى الشركات المختصة تقديم دراسات لبلدية بيروت وخرائط لاستحداث ثلاثة خطوط لسير الدراجات من وسط بيروت الى شارع بلس ومن الصنايع الى وسط بيروت فالجميزة ومار مخايل وبرج حمود ثم باتجاه العدلية والمتحف. وكان المشروع قد بدأ يرى الضوء لكنه توقف مع اندلاع انتفاضة تشرين وكل ما تلاها”.
في القانون اللبناني ممنوع التوقف على يمين الطريق وبذلك يكون مسار الدراجة مؤمناً تلقائياً، ويمكن الفصل بينه وبين الطريق بخط ابيض بسيط كما فعلت بولندا مثلاً او اثيوبيا. وفق الدراسات التي أجريناها يقول سبيتي “الكلفة في بيروت ليست عالية لإنشاء 24 كلم من مسارات الدراجات وكانت تتراوح بين 60000 و 80000 دولار حين اطلقنا الدراسة وفي طرابلس عاصمة الشمال تم تأمين مسارات بوضع فواصل حجرية على جانب الطريق للفصل بين السيارات والدراجات”.
دراجات النقل الحضري؟
من الممكن جداً إذاً تحويل طرقات العاصمة الى طرقات صديقة للدراجة ولكن هل القرار متخذ بذلك وهل يمكن ان يكون أولوية في ظل الظروف الراهنة؟ وثمة سؤال آخر يطرح: هل اللبنانيون مستعدون لاعتماد الدراجة كوسيلة من وسائل النقل الحضري ام لا تزال للترفيه فقط؟
ترفيهياً المفهوم بات متطوراً جداً ففي جبيل مثلاً افتتحت البلدية مساراً للدراجات الهوائية مطابقاً للمواصفات الهندسية والبيئية، ومعايير السلامة العامة، وضع في تصرف جميع أبناء جبيل وزوارها. ويمكن استئجار دراجات من الحديقة للصغار والكبار، وممارسة هذه الرياضة على ممر آمن بعيداً عن خطر السيارات على الطرق. والأمر مشابه في مدن عدة ففي مغدوشة مثلاً قدم أحد المغتربين 200 دراجة للبلدة وقامت البلدية بإنجاز خط خاص داخلها للدراجات. عملياً تَقَبُّلُ اللبنانيين لاستخدام الدراجة للتنقل لا يزال بحاجة الى المزيد من الوقت. ويقول سبيتي أنه تم العمل على مسار تنقل يربط ضبية بطرابلس كما تمّ العمل مع اتحاد بلديات صور لوضع مسارات للدراجات. الأفكار كثيرة ويمكنها المساهمة بشكل فعال في حل أزمة السير في بيروت كما أزمة المحروقات. وبالتعاون بين الوزارات المعنية يقول سبيتي يمكن وضع خطة لتحويل محطة شارل الحلو او المدينة الرياضية الى مرآب للسيارات يتم عبرهما استئجار دراجات هوائية تتيح للموظفين والعمال والطلاب الوصول الى مراكز عملهم ودراستهم في قلب بيروت.
ارتفاع الطلب او الأسعار؟
هل بات ممكناً ان تحل الدراجة أزمة البنزين، والزحمة والتلوث وتساهم في حلحلة الوضع الاقتصادي للمواطنين؟ سؤال بلا شك يفوق طاقة الدراجة الهوائية لكنه يقدم بعض الحلول ويقول طوني وهبة الرياضي والخبير التقني بالدراجات والمسؤول عن مبيعاتها في إحدى الشركات الكبرى ان مبيع الدراجات كان قد ازداد حوالى الضعف في العامين 2019-2020 بعد ان تكاثر الطلب بشكل كبير على الدراجات ليتراجع في العام 2021 نتيجة الانتاج الخفيف الذي أجبرت عليه الدول المصنعة بسبب ازمة كورونا بحيث لم يعد باستطاعتها تلبية الشركات.
اثناء جائحة كورونا يقول وهبة ازداد الطلب كثيراً على الدراجات الهوائية كوسيلة للترفيه إذ انه حتى اليوم تستخدم الدراجة بنسبة 5% فقط كوسيلة للتنقل و 95 % للترفيه. وقد ساهمت الجمعيات في نشر ثقافة الدراجة لكن ليس كوسيلة للذهاب الى العمل او المؤسسات الدراسية كما في الغرب. ولكن ربما مع استفحال الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر البنزين قد تصبح بديلاً عن السيارة عند البعض. لكن يبقى الأهم تعميم هذه الثقافة ودفع السائقين الى احترام الدراجة والحفاظ على سلامة راكبها. وكناشط رياضي يؤكد وهبة أن معظم البلديات تتجاوب حين يطرح عليها مشروع او نشاط للدراجات ولا سيما في البقاع الغربي حيث الطبيعة تساعد على هذا النوع من الأنشطة. اما في بيروت فلا تزال الصعوبات تواجه راكبي الدراجات إذ لا مسار لهم مفصولاً عن السيارات ويمكن في اي وقت ان تصادفهم عثرات غير متوقعة كالجوَر والمصبّعات وغياب الأرصفة وما سوى ذلك.
نسأل وهبة عن سعر الدراجات الهوائية فيخبرنا ان الدراجة المزودة بتقنيات تجعلها قادرة على تحمل أعباء طرقاتنا يقارب سعرها 500 دولار وقد ينخفض الى 250 للفئات الأدنى فعالية وصولاً الى 180 للفئات الشعبية المتوافرة في الأسواق ويقول ان الدراجات تطورت جداً بتقنياتها ومواصفاتها وبات اداؤها أعلى. ولكن هل يمكن للمواطن اللبناني بعد في ظل هذه الظروف اقتناء دراجة بهذا السعر؟ الجواب واضح، فهذه باتت مخصصة لفئة من الناس اما من يبحث عن دراجة عملية للتنقل فالخيارات امامه موجودة ضمن فئة المستعمل التي يتم استيرادها من دول آسيوية أو اوروبية على شكل ستوكات حيث يمكن شراء الواحدة منها بمبلغ 60 الى 70$ وكلما ازداد الطلب عليها كلما باتت اسعارها تنافسية، على ان تنظر الدولة وفق ما يقول سبيتي الى أمر تخفيض الجمرك على الدراجات المستعملة تحفيزاً لهذا النوع من النقل الحضري.
بين الدراجات الشعبية والكلاس يستذكر أهالي بيروت دكان محمد علي عيتاني واولاده لتأجير الدراجات الهوائية، في منطقة الصنايع مقابل باب الحديقة الخلفي، الذي كان من اوائل العاملين في هذه المصلحة مع بداية عهد الرئيس كميل شمعون، حيث امتلك ٤٠٠ دراجة، فتعاقد مع كل من مدراء الجامعة الاميركية واليسوعية الذين اعتمدوه لإرسال بعثاتهم الوافدة الى لبنان إليه، لغرض استئجار الدراجات لعدة أيام للترفيه والسياحة.
فهل تعود تلك الأيام المجيدة؟