لطالما كان الدولار عملة رديفة لليرة في لبنان، أمّا الجديد فهو تسعير السلع والخدمات رسميا بالدولار، بعد مضي نحو ثلاث سنوات على الأزمة، وفي هذا التحوّل اعتراف ضمني من قبل الدولة بـ “الدولرة”، لكن من دون إعلان ذلك بشكل رسمي، ينصّب الدولار عملة الوطن ويعلن وفاة الليرة.
رغم نفور الناس سابقا من فكرة الاستغناء عن عملة وطنهم، فإنهم يطمحون اليوم بشدّة إلى “دولرة” وظائفهم وأعمالهم، فرواتب الليرة اللبنانية لم تعد تكفيهم إلا أياما معدودة ولأبسط مقومات العيش، لا سيّما في ظلّ قفزات الدولار المخيفة.
وبات السؤال الذي يلحّ على لسان كلّ موظف عام وخاص اليوم: ما دامت الدولة دولرت كل شيء، فلماذا لا تدولر الرواتب؟ علما أنّ جزءا من القطاع الخاص يدفع بالدولار جزئيا أو كليا لموظفيه، فيما لا تزال شريحة عظمى من هذا القطاع تقبض بالليرة، من موظفين أو مياومين، على أنّ الأخيرين حالهم يرثى له.
الأسمر: رفع الحد الأدنى للأجور لا يؤدي الى شيء
حول هذه المطالب والزيادات الجديدة وإمكان دولرة الرواتب في القطاعين المذكورين، يؤكد رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر لـ “الديار”، أنّ رفع الحد الأدنى للأجور اليوم لا يؤدي إلى شيء، فكل الزيادات تتبخّر في ظل الارتفاع المستمر في سعر صرف الدولار، وأنّه يفترض ربط رفع الحد الأدنى وزيادة غلاء المعيشة بتطور سعر الصرف، لافتا إلى أنّ قسما من المؤسسات الاقتصادية والتجارية يعتمد الدولرة بطريقة أو بأخرى، ويدفع الرواتب جزئيا أو كليا بالدولار، ما حتّم على وزارة المالية أن تحدد سعر استيفاء الضرائب على دولار 15 ألف ليرة بدل 8000 ليرة هذه السنة.
وبالنسبة للقطاع الخاص، يكشف الأسمر أنّ الحد الأدنى للأجور أصبح اليوم 4 ملايين و500 ألف ليرة، و125 ألف ليرة بدل النقل، وسيقر هذا الأسبوع، معلنا عن مفاوضات جديدة مع الهيئات الاقتصادية لرفع الحد الأدنى وبدل النقل، وإيجاد طريقة لربط غلاء المعيشة وهذه الزيادات بتطور سعر الصرف الذي يتفاقم يوميا. وفي ما يخصّ القطاع العام فقد تمّ تأليف لجنة برئاسة مدير عام المالية، للنظر في رواتبهم وربطها بالتطور السلبي لسعر الصرف، والذي يؤدّي إلى الكوارث وانعدام القدرة الشرائية لديهم، مقترحا عدّة حلول منها التعويض اليومي بما يسمى حوافز أو حضور إنتاجي عن كلّ يوم، على ألا يقلّ الحضور عن أربعة أيام أسبوعيا، وهذا يحتسب وفق الرتبة ويبدأ بـ 300 ألف ليرة وينتهي بـ 800 ألف ليرة يوميا، وإعطاء 5 ليترات بنزين يوميا للموظف العام عن أيّام حضوره، إضافة إلى أساس راتب شهرين مقابل أساس الراتب الشهري كمساعدة اجتماعية، معتبرا أنّ كلّ ذلك لا يفي بالغرض أمام التطور المذهل بسعر صرف الدولار.
الزيادات مع ارتفاع الدولار تتبخر قبل الحصول عليها
هل ما يمنع “دولرة” الرواتب للقطاعين؟ يجيب الأسمر أنّه يمكن دولرة الرواتب في القطاع الخاص، إنّما دونه عقبات قانونية أهمها التصريح للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عن كامل هذه الرواتب وتطوّرها وكيفية احتسابها وذلك كلّ ثلاثة أشهر، وفي حال لم يكن هناك “دولرة” تامة، فالاتجاه سيكون نحو ربط هذه الزيادات وتطوّر الرواتب بسعر الصرف، لافتا إلى أنّه ليس هناك مساعدات اجتماعية في القطاع الخاص كما القطاع العام، وكل ما يدفع يفترض أن يصرح عنه للضمان، معتبرا أنّ مراسيم الزيادات التي ستصدر هذا الأسبوع، والتي أقرت قبل الأعياد وفق دولار 36 ألف ليرة، لم تعد تساوي شيئا، وتبخرت قبل أن نقبضها، وتشمل إلى جانب الحدّ الأدنى المذكور، زيادات في متممات الراتب من نقل وبدل منح مدرسية وتعويضات عائلية بما يصل إلى 10 ملايين ليرة، مؤكدا أنّ الاتحاد في حال تشاور دائم مع الهيئات الاقتصادية لإنتاج اتفاق آخر حول الحد الأدنى للأجور ومتممات الراتب بسرعة قصوى، بالتفاهم مع وزير العمل ودعوة لجنة المؤشر لإقرارها، وقد نصل إلى زيادات أخرى قبل نهاية شهر آذار، مشدّدا في المقابل على أنّ كل هذا بحاجة إلى استقرار في سعر صرف الدولار، فالزيادات مع ارتفاعه تتبخر قبل الحصول عليها، وهذا لن يحصل من دون استقرار سياسي.
منصور: “الدولرة” مؤشر جيد للمواطن وسيىء للاقتصاد
وفي وقت تغزو فيه “دولرة” أغلب المصالح وأسعار السلع والخدمات، لا يزال هناك من اللبنانيين من يقبض بالليرة، أولا القطاع العام وشريحة كبرى من القطاع الخاص، ما يحتّم السؤال حول انعكاس “الدولرة” على الناس والدولة؟ وهل يجب تحويل الرواتب للدولار وما المانع؟
تشير المتخصصة في الإقتصاد النقدي في البلدان المدولرة الدكتورة ليال منصور لـ “الديار”، إلى أنّ تأثير “الدولرة” في الدولة يعاكس تماما تأثيره في المواطن، فهي وسيلة لحماية المستهلك والمستثمر من تقلبات سعر الصرف، وتحويل الدولار والليرة، واستغلال التجار، أمّا اقتصاديا فتعتبر “الدولرة” أسوأ المؤشرات الاقتصادية، لأنها تضعف قيمة الليرة واستخدامها، وتضعف كلّ السياسات النقدية ودور البنك المركزي كلّما زادت نسبتها، وشرحت أنّه إذا كان البلد مدولرا بنسبة 10%، فهذا يعني أنّ البنك المركزي لا يزال قويا، وقادرا على السيطرة على الكتلة النقدية، ولديه سياسات نقدية صحيحة، فيما اليوم هو عاجز، والعملة الأساسية في التداول أصبحت الدولار.
“الدولار اللبناني” هو الحلّ
أكثر من ذلك، تعتبر منصور أنّ وجود الليرة في بلد مدولر جدا مثل لبنان، يهدف الى المضاربة والاستغلال فقط، كما يحصل بالنسبة للشركات الخاصة التي تستغل موظفيها باسم القانون، وتدفع لهم رواتبهم بالليرة اللبنانية، علما أن صاحب العمل أو التاجر يقبض بالدولار، كم أنّ دفع الرواتب والمساعدات في القطاعين الخاص والعام بالليرة، وبالتالي طباعة المزيد منها، يزيد من حجم التضخّم والانهيار.
وانطلاقا من الحاجة الملّحة اليوم لدولرة الرواتب، تلفت منصور إلى أنّ تحويل الرواتب العامة والخاصة إلى الدولار يتطلب الاعتراف رسميا بأنّ الدولار هو العملة الوطنية، أي الاستغناء كليا عن الليرة، ما يعني أنّ الضرائب أيضا ستكون بالدولار كي تدفع الدولة بالدولار للموظفين، وهذا يمكن أن يحصل، داعية إلى تنفيذ ما طرحته قبل ثلاث سنوات، وهو الـ “كارنسي بورد”، وهي نسخة عن الدولرة الشاملة، ويصبح اسم العملة “الدولار اللبناني” أو “الدولار العربي” أو “دولار الميدل إيست”.
البلد متجه نحو “الدولرة” الشاملة
تشبّه منصور موقف الدولة بالقول ” وكأنّ الليرة ميتة ولكن الدولة اللبنانية تقول إنّها لا تزال بالكوما”، مضيفة أنّ الأمر يتحقّق فقط من خلال اعتراف الأخيرة بأنّ الدولار الأميركي هو العملة الرسمية، موضحة في المقابل أنّ الأزمات الاقتصادية المتفرقة ، كالعقارية والمصرفية وسواهما، ستنتهي عاجلا أم آجلا من دون تدخل الدولة، ما عدا أزمة سعر الصرف، فإنّها – في بلد مدولر جدا كلبنان – لن تنتهي حتى بعد مرور 40 عاما، إلا بتغير نظام سعر الصرف نحو الدولرة الشاملة أو أخواتها، مؤكدة أنّ البلد متجه نحوها بدليل دولرة الأسعار واعتراف السياسيين ضمنا بالدولار رسميا.
خلاصة القول… يوحي تسعير الدولة للسلع والخدمات بالدولار، باعتراف ضمني منها بهذه العملة، فيما يقف الأمر عند حدود عدم الإعلان الرسمي، وبغض النظر عمّا إذا كان هذا قانونيا أم لا، وإن كانت ستعلن أم لا، فالمواطن اليوم يعلن موته معنويا، نعم لا أحد يموت جوعا، لكنّه يموت ذلا عند طلب الحاجة!