ليس مستغرباً أن تتجّه الأنظار من جديد باتجاه الحدود الجنوبية، فالتطورات الناجمة عن نصب خيمتي “حزب الله” معطوفة على ما سبقها وتلاها من توتر بعد ضمّ الجزء اللبناني من بلدة الغجر، توحي باحتمال وقوع إشكال في اي لحظة. وهو ما يدفع إلى تكرار السيناريو الذي يخدم الطرفين. فإسرائيل تحتاج إلى تبرير أي اعتداء لحماية مستوطناتها، بعد ان تثبت عجز الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة، لتمضي “المقاومة” بادّعاء دور الرادع. وعليه ما هو المحتمل؟
منذ ان نصب “حزب الله” قبل أيام قليلة خيمتيه على مقربة من الخط الأزرق، وإلى الجانب اللبناني منه مقابل الغجر وتلال كفرشوبا، على وقع الخطوات الاسرائيلية التي قادت إلى ضمّ الجزء الشمالي اللبناني من بلدة الغجر إلى الجزء السوري منها، بعد عزلها عن محيطها اللبناني، تعدّدت السيناريوهات التي أُطلقت على مسرح الأحداث المستجدة، في موازاة حركة الاتصالات التي واكبتها، بعد ان وصف الجانب الاسرائيلي ما جرى بأنّه خرق للخط الأزرق، لوجود هاتين الخيمتين في منطقة متنازع عليها بين لبنان واسرائيل، في مواجهة التمسّك اللبناني بلبنانية الأرض حيث نُصبتا، وما أثبتته القوات الدولية عند الكشف والتحقيق في موقعهما.
ولمّا أدّت الاتصالات الأممية والدولية إلى سحب إحدى الخيم التي يمكن ان تثير التوتر المرفوض من الجانبين، لكونها في منطقة متنازع عليها، أُبقيت الثانية لوقوعها إلى الجانب اللبناني، حيث لا داعي للشكوك بسببها. ولكن ذلك لم يوقف مسلسل المخاوف على أمن المنطقة. ولذلك ارتفعت لغة التحذير والتهديد والوعيد التي أطلقها الجانب الاسرائيلي، رغم معرفته بأنّ هاتين الخيمتين تحملان الرقم 17 و18 من مجموعة الخيم الـ 16 العائدة لجمعية “أخضر بلا حدود” التابعة لـ”حزب الله” على طول الخط الأزرق وعلى بُعد أمتار قليلة من جدارها الإسمنتي – بأنّها جاءت في توقيت تلاقت فيه مع خرق اسرائيلي علني لا يرقى اليه أي شك، نتيجة الإجراءات التي قامت بها لمجرد ضمّ الجزء الشمالي اللبناني من بلدة الغجر إلى الجانبين السوري والاسرائيلي منها، وقطع الطرق المؤدية اليها ووقف الأذونات الخاصة المحدودة التي كانت تُمنح لمواطنين يودون الانتقال الى الجانب اللبناني منها دون غيره من أجزائها.
عند هذه المحطة، تعدّدت الوساطات التي قامت بها الولايات المتحدة الأميركية، بناءً لطلب اسرائيلي. فزارت السفيرة الاميركية دوروتي شيا العائدة حديثاً من بلادها، المسؤولين اللبنانيين، ناقلة مجموعة من الاقتراحات التي تصبّ في مصلحة التهديدات الاسرائيلية، مع تأكيد حرصها الأكيد على ضمان استمرار الهدوء على جانبي الحدود. فبرأيها، انّ المنطقة “لا تتحمّل أي خضة أمنية من هذا النوع، منذ ان أُنجزت عملية الترسيم البحري بين لبنان واسرائيل، والتي سمحت بإطلاق الأنشطة البترولية بزخم غير مسبوق من الجانبين”، بحيث بدأت إسرائيل استثمار حقولها النفطية الشمالية، وبوشرت التحضيرات لبدء الحفر التجريبي في الجانب اللبناني، بعد الانتهاء من عمليات الاستكشاف الضرورية في البلوك رقم 9.
ومع احترام الجانب اللبناني وتفهمّه للمخاوف الاميركية والأممية، وعد كل من رئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بإطلاق الاتصالات الاستثنائية مع قيادة الأمم المتحدة، لإبقاء العملية ضمن مهامها. فهي الأدرى بما يجري على الارض من خروقات، وتملك الوسائل اللوجستية الكفيلة بمعالجة اي خرق، وبإمكانها تطويق اي حادث مهما بلغت نسبة خطورته، قياساً على التجارب السابقة في أكثر من منطقة وعلى اكثر من نقطة خلافية من النقاط الـ 13 المُختلف حولها، وتمييزها الدقيق بين مقتضيات التصنيف الواجب قيامه دوماً بين “الخط الأزرق” الذي سُمّي بخط الانسحاب عند ترسيمه العام 2000، من دون المسّ بأهمية تمسّك لبنان بـ “خط الحدود الدولية” المكرّس لدى الأمم المتحدة منذ العام 1923، الذي اعتُمد كمستند دولي لا يحيط به أي شك، قبل الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية، في مختلف القرارات الدولية ذات الصلة التي صدرت، من القرار 242 العام 1978 امتداداً الى القرار 1701 الذي صدر في آب من العام 2006، وما بينهما من قرارات وتفاهمات، من بينها ما يُعرف بـ ” تفاهم نيسان” عام 1996.
لم تحل هذه الإجراءات دون تجدّد المناوشات في أكثر من نقطة حدودية، توزعت على طول الخط الازرق، من القطاع الغربي الى الشرقي وصولاً الى الغجر وتلال كفرشوبا، ولكنها بقيت من ضمن التحدّيات اليومية التي سبق للقوات الدولية ان استوعبت مثيلاتها وتمكّنت من طيها بالسرعة القصوى. لكن ما رافق هذه المناوشات أدّى الى اكثر من طرح، تسبّب الحديث عن بعضها ببروز الخلافات البينية اللبنانية، قبل الحديث عن المواقف الدولية والأممية، وهو ما رفع من نسبة القلق الدولي من صعوبة التوصل إلى البتّ بمصير الخيمة، كنتيجة حتمية لهشاشة الموقف اللبناني وعدم وجود توافق كامل حول اي خطوة يمكن ان تُنهي أجواء التوتر، حتى من ضمن الصف الواحد وعلى مستوى”الثنائي الشيعي” تحديداً.
عند هذه المعطيات، توقفت مراجع سياسية وديبلوماسية لتشرح ما يقود الى أجواء القلق، بعدما برز الخلاف إلى العلن بطريقة فاجأت الجميع، وهي معطيات تسبب بها موقف الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله ليل الاربعاء – الخميس الماضي، وما أثاره من لغط، بعدما نفى فيه الحاجة الى عملية الترسيم البري والاكتفاء بالعودة الى خط الهدنة عام 1949، الذي كرّس الحدود الدولية العائدة لعام 1923، مكتفياً بالدعوة الى من يعنيه الأمر من الوسطاء، الى انسحاب اسرائيل من الغجر وتلال كفرشوبا وشبعا.
وبناءً على ما تقدّم، فقد حسمت المراجع الديبلوماسية والسياسية اسباب القلق، وردّته الى أنّ طرح نصرالله أنهى سريعاً وبفارق يومين فقط، السيناريو الذي رسمه كل من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي يوم الاثنين الماضي، عندما ربطا معاً في موقف تمّ التنسيق بشأنه صباح ذلك اليوم أمام قائد القوات الدولية الجنرال آرولد لازارو، الذي زارهما، إزالة الخيمة بإطلاق المفاوضات حول النقاط الـ 13 المختلف عليها بين الجانبين على طول الحدود، وصولاً الى استعادة الجزء اللبناني من الغجر وتلال شبعا وكفرشوبا وإخلاء اسرائيل لنقطة الـ “B1” على شاطئ الناقورة، وهو ما قد يطلق مساراً كبيراً من المفاوضات شبيه بذلك الذي انطلق في حزيران 2021 وانتهى بالترسيم البحري في خريف العام الماضي، تأسيساً على ما جاء في “اتفاق الإطار” الذي أُعلن من عين التينة وتل ابيب وواشنطن في الأول من تشرين الأول عام 2020.
عند هذه المؤشرات السلبية التي لا توحي بإمكان البحث بمصير خيمة الحزب وطي تداعياتها بالسرعة التي يتوقعها البعض، فقد أسقطت التوضيحات التي رافقت زيارة الموفد الاميركي الى ملف الترسيم البحري عاموس هوكستين الى اسرائيل، الوجه الآخر للسيناريو الذي يتحدث عن دور له في عملية الترسيم البري، بعدما تسرّع البعض عن جهل او غباء لا فرق، بتوقّع زيارته بيروت لإطلاق هذا المسار الذي فرمله خطاب نصر الله في خلال ساعات تلت الحديث عنه. وهو أمر ترك وسيترك كل خطوات المعالجة قيد الانتظار، ليتعزز البحث عن سيناريوهات أخرى، منها ما يربط ما يجري في الجنوب بتطورات مختلفة قد يعود بعضها الى اكثر من ملف مطروح على طهران قبل الجنوب اللبناني، ولا مجال لمقاربته في هذه المقالة.