منذ نهايات العام الفائت، بدأ رئيس «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط محاولات حثيثة لثني الرئيس سعد الحريري عن خطوة الانسحاب من اللعبة السياسية. فجنبلاط يعتمد خصوصاً على موقع الحريري السنّي، ليشكّل إطاراً سياسياً ذا فاعلية في التوازنات الداخلية، بمشاركة رئيس مجلس النواب نبيه بري.
إكتشف جنبلاط أنّ الأمر ليس سهلاً، لأنّ القرار الحقيقي في هذا الشأن ليس موجوداً لدى الحريري شخصياً بل عند السعوديين في الدرجة الأولى، والإماراتيين تالياً. وحتى الآن، لم يتغيَّر قرارهم الذي يطلب من الحريري الإنسحاب.
قام جنبلاط بزيارة مفاجئة لموسكو، التقى خلالها صديقه القديم ميخائيل بوغدانوف، موفد الرئيس فلاديمير بوتين إلى الشرق الأوسط، وكذلك وزير الخارجية سيرغي لافروف، حيث ناقش تطورات الوضع اللبناني، بما في ذلك التوازنات والمناخات والوقائع السياسية التي سيدخل فيها بعد الانتخابات النيابية المقبلة، ومغزى انسحاب الحريري من اللعبة السياسية.
ومن موقع الصديق المسموع رأيه، طلب جنبلاط من موسكو المساهمة في الحلحلة استناداً إلى رصيدهم على خطين: إقناع إيران بمراعاة الوضع اللبناني الذي يتَّجه إلى الانهيار، وتليين موقف السعوديين إزاء لبنان والحدّ من ضغوطهم على الحريري.
فالحريرية تشكِّل ضماناً للاعتدال داخل الطائفة السنّية، وانحلالها قد يفتح الباب للمناخات الإقليمية الساخنة الآتية من سوريا والعراق خصوصاً، ويتيح إعادة «أشباح» التطرُّف. وفي هذا السياق، إنّ الكلام المثار في الفترة الأخيرة، بشكل مبرمج، عن عودة «داعش» إلى ممارسة نشاطها لا يخلو من الألغام.
طبعاً، الروس حسّاسون على موضوع التطرُّف. وعندما تمادت الحرب في سوريا، بدأت القلاقل تنتقل إلى داخل الاتحاد الروسي. ومن العوامل التي دفعت بوتين إلى التدخّل عسكرياً هناك، تجنُّب أن تكون سوريا قاعدة لانفلات المتطرفين في اتجاه آسيا الوسطى وروسيا.
في المعلومات التي يتداولها بعض المطلعين، أنّ بوغدانوف وعد ببذل الجهد مع القيادة السعودية من خلال السفير الروسي في الرياض، لإقناعها بتليين موقفها إزاء الحريري، وأنّ الأخير بقي يتريَّث في إعلان موقفه، في انتظار ما يمكن أن يتبلور في الرياض.
لكن القيادة السعودية الشابَّة، الممثَّلة بوليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، لها رؤيتها الاستراتيجية الخاصة في ما يتعلق بالوضع الإقليمي، بما ذلك لبنان.
تقليدياً، في عهد الملك عبدالله بن عبد العزيز، ثم الملك سلمان بن عبد العزيز، كانت التوازنات الاستراتيجية تتيح للمملكة أن توسّع هامش حضورها السياسي على مستوى العالمين العربي والإسلامي، وكان لبنان أساسياً في هذه الاستراتيجية.
وكل التسويات والمواثيق التي صيغت في لبنان، وأبرزها اتفاق الطائف، جاءت بتوقيع سعودي مباشر. ومؤسس الحريرية، الرئيس رفيق الحريري، هو الذي «هندسَه» في ذروة القوة السعودية إقليمياً.
وتلك القيادة السعودية هي نفسها التي نصحت سعد الحريري بفتح حوار مع الرئيس السوري بشّار الأسد في كانون الأول 2009، متجاوزاً ملف اغتيال والده. ولكن هذه الزيارة صارت عبئاً عليه لاحقاً، بكل المقاييس، هو المثقل جداً بأعباء زعامة مرهقة، وبالوزن الثقيل لتيار «المستقبل»، وبانفجار انتفاضة 17 تشرين الثاني 2019 في وجهه. وهذا الإرهاق ظاهرٌ في الحريري جسدياً.ad
بعد تحوُّلات «الربيع العربي» التي أضعفت الأنظمة العربية أو أسقطتها وأغرقت العرب في الحروب الأهلية، وبعد صعود نجم إيران في العالم العربي وتلاحق مناخات التطبيع مع إسرائيل، مالت الرياض إلى سياسة أكثر دفاعيةً، بهدف منع إيران من خرق المنظومة الخليجية. واليمن هو الخاصرة الأشد خطراً.
يريد السعوديون، وفي شكل حاسم، تحييد لبنان، بحيث لا يبقى منطلقاً لنشاط إيران ضدّهم. وكانت المحاولة الأولى في «الاستقالة» المعروفة التي أعلنها الحريري من الرياض في 4 تشرين الثاني 2017. ومنذ ذلك الحين، استمروا في الضغط، ولكن لم يتغيَّر المسار في لبنان.
وفي تقديرهم أنّ الانتخابات الآتية ستحمل انتصاراً جديداً لـ»حزب الله»، بحيث تتكرَّس السلطة له على مدى سنوات. وسيستفيد «الحزب» من الحريرية ليحصل على غطاء سنّي وعربي. فإذا زال هذا الغطاء تنكشف الصورة، ويفقد «الحزب» جانباً من مشروعيته. ولذلك، لا تميل القيادة الجديدة إلى استمرار الحريرية بسلوكها الحالي. وهي لم تستجب إلى الوساطات في هذا الشأن، بما في ذلك الوساطة الروسية.
المبادرة الكويتية تشكّل محاولة أخيرة لإعادة النظر، إذا تجاوب معها لبنان في الأيام القليلة المتبقية من هذا الشهر. ووزير الخارجية الكويتي أحمد ناصر الصباح معروف بعلاقاته الجيّدة بوليّ العهد السعودي. ولكن، بالتأكيد، لن يتجاوب اللبنانيون. وهذا ما جعل خروج الحريري أمراً غير قابل للمراجعة.