كشفت وثائق “باندورا” المسربة عن فضائح جديدة تتصل في الغالب بتهرب ضريبي كان يقوم به متنفذون وسياسيون ومصرفيون وغيرهم من كل أنحاء العالم. وهذه الوثائق تُكمل وثائق “بنما” ووثائق “باراديز”، بل أن القائمين عليها يرون أنها عمل أكبر من كُل ما سبقه فيُقدم حقائق عالمية ومعلومات تتعلق بالأملاك السرية والثروات المخبأة لعدد كبير من زعماء العالم وشخصيات عامة.
وهذه المعلومات التي يكشفها التحقيق هي نتيجة لتعاون يُعتبر الأكبر في تاريخ مهنة الصحافة، كونه جمع أكثر من 600 صحافي من حول العالم بإشراف الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، ليحققوا في ملايين الوثائق التي تكشف أسرار الملاذات الضريبي والتي تكشف توّرط سياسيين ومصرفيين ورجال أعمال لبنانيين فيها، في وقت تمرّ البلاد بأسوأ أزمة اقتصادية تشهدها في تاريخها.
أهمية التحقيقات الاستقصائية “المستقلة”
وعمل موقع “درج“، في لبنان، مع الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين ومؤسسات إعلامية كثيرة، على تحليل المعلومات وتتبعها وتصنيفها، وهي ليست المرة الأولى التي يُشارك فيها الموقع في تتبع وكشف حقائق لها علاقة بالتهرب الضريبي والفساد المستشري في العالم العربي، وتحديدا في لبنان، الذي تبيّن أنه البلد الأول حول العام في التهرب الضريبي من خلال تسجيل الشركات في الملاذات الضريبية.
ويقول الصحفي والكاتب اللبناني حازم الأمين، وهو أحد مؤسسي الموقع، وممن عملوا على الوثائق لموقع “الحرة” إن “التعاون والعمل الصحفي صار السمة الجديدة للمهنة، إذ تراجع عمل الأفراد أمام العمل الجماعي المنظم الذي تكون نتيجته أكبر وأفضل والأهم من ذلك، يُقدم حصانة كبيرة”.
وأضاف “على سبيل المثال أنا لو نشرت منفردا الوثائق حول الملك الأردني كان يُمكن أن يستفردوا بي ويحاربونني ولكن أن ننشر مع مؤسسات مثل “بي بي سي” و”واشنطن بوست” وغيرها من مؤسسات عريقة فهذا يعطينا حصانة فعالة ويشجع على الاستمرار”.
وأشار إلى أن “تعدد الأشخاص والمؤسسات والتعاون فيما بينها في العمل على موضوع ما، أثبت أنه أنجع بكثير من العمل بشكل منفرد خاصة أن كل القصص مبنية على وقائع مستقاة من مصادر متعددة وموثوقة ومن أشخاص على صلة مباشرة بالقضية (التي يُعمل عليها) أو على اطلاع كبير عليها”.
ولا يأخذ العمل الاستقصائي حيزه في المنطقة العربية بالرغم من ظهور مؤسسات عدة في السنوات الماضية حاولت أن تعوض النقص الكبير في هذا المجال، ويعيد الأمين هذا الأمر إلى “أن ثقافة الاستقصاء لم تكن موجودة عدا عن أنها مكلفة، كما أن الوصول إليها صعب كثيرا بسبب الانقسامات الطائفية والعرقية وغيرها، ولكن الأمور تتغير اليوم ولكن بحاجة إلى وقت أكثر وجهد أكبر”.
وفيما صدر من وثائق، احتل لبنان المرتبة الأولى بـ 346 ملفا. وجاءت في المرتبة الثانية المملكة المتحدة بـ151 ملفا، ويأتي هذا التحقيق في وقت يعاني لبنان من أزمة اقتصادية شديدة الخطورة وتشهد عملته انهيارا كبيرا، إذ خسرت في حوالي سنة أكثر من 90 في المئة من قيمتها، متخطية فنزويلا التي خسرت عملتها 70 في المئة من قيمتها.
وتقول الصحفية وأحد مؤسسي الموقع، عاليا إبراهيم، لموقع “الحرة”: “حين نشرت وثائق ‘بنما’ منذ سنوات شعرنا أن هناك ضرورة لأن تكون هناك مؤسسات صحافية مملوكة من صحفيين وليست من دول وأشخاص وسياسيين، وبإمكانها أن تقوم بعمل صحافي استقصائي دون أي اعتبار سياسي أو غيره”.
وشاركت إبراهيم في العمل على الوثائق التي صدرت قبل يومين، وترى أن “التعاون الذي يحصل هو شيء مميز وهو يختصر جهد ووقت وتكلفة إذ اليوم بفضل هذا الأمر صار بإمكاني أن آتي بمعلومة من أي بلد في العالم من دون الحاجة إلى السفر والبحث مع ما يتطلبه ذلك من وقت وجهد ومال”.
والتعاون غير الجديد والمستمر بين مؤسسات كثيرة تحت مظلة الاتحاد أو بالتعاون معه، تطور مع مرور الوقت، واليوم صار هناك برامج تساعد في توفير الوقت وتسهيل التواصل فيما بين الصحفيين.
وتقول إبراهيم: “يبقى أن هناك مؤسسات هي وُجدت فقط للعمل الاستقصائي وهذا يسهل عليها التفرغ حين يكون هناك مشروع كبير مثل “باندورا”، و”درج منصّة إعلامية مستقلة، أسّسها صحفيون محترفون بهدف تقديم قصة صحفية “ثالثة” متحرّرة من شروط التمويل السياسي الذي يحكم عمل المؤسّسات الإعلامية العربية السائدة، التي كان لها دور بفشل ثورات الربيع العربي”، كما يقولون في التعريف عنهم على موقعهم.
أبرز الشخصيات
وكشف “درج” عن أبرز أسماء ظهرت في الوثائق، من بينها رئيس الحكومة السابق، حسان دياب، والحالي، نجيب ميقاتي. واللافت في هذه الوثائق أنها تناولت أولا رئيس حكومة سابق (حسان دياب) كان قد أتي به بعد احتجاجات 17 أكتوبر 2019 وقيل إنه سيأتي بمهمة إصلاحية بحت، لكنه استقال بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، وهو امتنع عن حضور التحقيق معه.
وتظهر “وثائق باندورا” أن دياب هو أحد مالكي شركة وهمية في جزر فيرجن البريطانية تم إنشاؤها بعد أن ترك منصبه وزيرا للتعليم، وكان هدف الشركة هو “التداول العام والاستشارات”، وفقا لسجلات أوراق باندورا.
كان المالكان المشاركان لدياب هما نبيل بدر، قطب الأوراق والبناء الذي ترشح للبرلمان في عام 2018، وعلي حدادة، المدير المالي لشركة استثمار مقرها بيروت، هي “شديد كابيتال”.
ولم يرد دياب وبدر على طلبات للاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين المتكررة للتعليق.
وقال، خضر طالب، مستشار دياب في حديث لراديو سوا إن هذه “التسريبات غير صحيحة، وشركة “أوفشور” المشار إليها في التسريبات تم تسجيلها عام 2015، ولم تعمل نهائيا”.
وكذلك يبرز اسم رئيس الحكومة الحالي، نجيب ميقاتي، الذي أتى برضى فرنسي ويزعم أنه سيقود عملية إصلاح ويقيم الاستحقاق الانتخابي في موعده.
وكشف التحقيق أن ميقاتي هو أيضا مالك شركة “هيسفيل” للاستثمار، وهي شركة أنشأت في بنما عام 1994، كما تمتلك الشركة عقارات في موناكو، اشترت أحدها بأكثر من 10 مليون دولار.
ويظهر أن ماهر، نجل ميقاتي، كان مديرا لشركتين على الأقل مقرهما جزر فيرجن البريطانية، استخدمتهما مجموعة والده لامتلاك مكتب في وسط لندن.
وردا على رسالة إلكترونية أرسلها الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين وموقع “درج” إلى نجيب وماهر ميقاتي، قال ماهر إنه في عام 2005، اشترى والده مسكنا في موناكو بشراء أسهم في شركة هيسفيل للاستثمار، وهي الشركة البنمية التي يمتلكها، وبحسب ماهر، أنشأ المالك السابق للشقة الشركة في عام 1994، وقال إن والده لا يزال يملك العقار.
بعد النشر
ويقول المحامي، طارق حجار، لموقع “الحرة” إن “فضائح الفساد تطيح بحكومات وتُفلس شركات وهذا ما رأيناه في وثائق “بنما” قبل سنوات واليوم نرى “باندورا” والتي للبنان مرة جديدة حصة فيها، والأهم يتبين أن لبنان في ظل الأزمة هو أكثر بلد لديه ملفات في الجنان الضريبي”.
ويضيف: “أن تكون هناك شخصيات عامة مذكورة في هذا النوع من التحقيقات والفضائح فهذا يستدعي تحركا فوريا من النيابة العامة المالية أو النيابة العامة التمييزية ولكن مع الأسف لم يحصل أي شيء. طبعاً لا شيء في القانون يجبرهم على التحرك، ولكن الواجب يستدعي أن يكون هناك تحقيقا واضحاً وشفافا فيما يخص ورود أسماء شخصيات عامة في موضوع كبير كالتهرّب الضريبي، في النهاية هؤلاء شخصيات عامة تُخفي هذه المؤسسات وبالتالي السؤال مشروع والتحقيق واجب”.
ماذا بعد النشر؟ يقول الأمين: “هناك عمل بدأ لمتابعة العمل الصحفي، أي ما بعد العمل الصحفي، إذ أن هناك مؤسسات حقوقية بدأت بالتواصل فيما بينها للعمل على تكملة ما تتوصل إليه التحقيقات الصحفية، بالطرق القانونية التي تعرفها هذه المؤسسات جيدا”.