مناضل، قومي، أردني، عروبي: من هو وصفي التل الذي يتغنى به الأردنيون؟

وصفي التل

Share to:

نضال العضايلة

في 28/11/1971، امتدت يد غادرة لتغتال رجلا لم تلد مثله النساء في عصرنا الحديث، قتلوه وهو في طريقه ليقول للعرب أن لدي خطة لإستعادة فلسطين الحبيبة، قتلوه وهو يصعد درجات فندق الشيراتون في القاهرة، لكنهم لم يكن لديهم علم أنهم هم المقتولون بكره وحقد الشرفاء العرب.

اليوم وبعد كل هذه السنوات اقول لقتلة وصفي : لقد كان الشهيد الرمز وصفي التل ضحية موقفه الصلب ضد الشعارات التي ملأت العالم العربي بآلة الاعلام الناصرية والتي كانت محاورها تمتد بين بيروت والقاهرة وانتقال أبو عمار الى بيروت جعل توجيه الحملة ضد وصفي أقوى بكثير مما سبق.

اقول لهم أن ابا مصطفى لم يكن سياسيا ميكافيليا لأن أخلاقه لا تقبل ذلك، والا لما اغتيل لو كان مراوغا ويميل مع تيارات الكذب والمداهنة.

اقول لهم انكم ليس إلا سذج الذين ارتبطت أسمائهم في وهمج رعاع كلي يقين أنهم أدوات لا يعرفون عن وصفي شيئا حتى ملامح الرجولة التي تميز بها والتي كانت ترعب الرجال الرجال فكيف بالناعقين والاقزام من أمثالهم.

اليوم بعد نصف قرن علينا أن نتحدث بصدق عن وصفي رجل المهام الصعبة، علينا أن نتحدث عن وصفي ابن الأردن ابن الأرض عبر الزمان، اليوم رحل وصفي وما زال كرسي الرئيس يئن ويدمع، اليوم رحل الجسد وبقيت المآثر، اليوم خلد إسم وصفي والباقي الى زوال إلا من رحم ربي كأنهم أعجاز نخل خاوية.

ولجواد البغدادي، وزياد الحلو، ومفيد الونج، اقول : وصفي التل كان أسطورة، ولد عظيماً ومات عظيماً، وفرق كبير بينه وبين من تسلم رئاسة الوزراء بعده، وفرق كبير بين موته وموت الآخرين الذين عاشوا في الحياد بعد أن تركوا المنصب ثم ماتوا في البرود ولم يعلم عنهم أحد وشيعهم القليل ممن يرتدون البدلات والنظارات السودات.

ذكرى إستشهاد وصفي التل أصبحت في كل عام، إحتفالاً كرنفالياً توقد فيه الشموع، وتُغلق الطرقات ويبكيه الرجال، وتُغني فيروز: «أردن أرض العزم أغنية الظبا، نبت السيوف وحد سيفك ما نبا».

هو من أهم القادة الذين أنجبنهم الأردن، إذ فرض حضوره وحبه واحترامه على الأردنيين واكتسب ثقتهم، نظراً لما تمتع به من صدق وصراحة وإخلاص في العمل من أجل الأردن وفلسطين، وقد شكلت شخصيته مزيجاً من العسكرية والمقاومة الشعبية والعمل السياسي، إضافة لحب الأرض والابتعاد عن الإقليمية والقطرية.

كان يؤمن بالعمل الجماعي وحذر من دخول الأردن في حرب عام 1967 دون استعداد عسكري كامل، كما نادى بالاعتماد على الذات وعدم الاعتماد على المساعدات الخارجية، شكل خمس وزارات، وعندما كان يتحمل المسؤولية لا يأتيها طمعاً بالكرسي، بل كان يأتيها حاملاً في جعبته قضايا ومخططات تتضمن : إصلاح الجهاز الإداري، إعداد المواطن الصالح، القضاء على الرشوة والمحسوبية، الإعداد لمعركة البناء ومعركة التحرير، وكل هذا كان مبنياً على فكر ودراسات وأرقام.

أن حالة التعلق به ترتبط بالوطن وبالمنهج الذي كان يسير عليه، وليس باسم وصفي فقط، فهو شخصية تتمتع بالقرب من الناس «واقعي قريب من مشاكلهم وهمومهم انطلق من مشاريع وطنية قابلة للتطبيق على ارض الواقع، كالزراعة واستثمار الموارد البشرية، فكان يعشق الوطن وترابه ليكون الشخصية النموذج وليس كرئيس وزراء آنذاك فقط»، لذا كان وما يزال حبه متجذرا في قلوب الأردنيين.

الكثير من الصفات في التل، صنعت منه صورة «القدوة»، الذي خرج من رحم المجتمع البسيط «الفلاح»، لم يعش حياة البذخ، مكتبه وبيته مفتوح لكل شخص يرغب برؤيتة، حياته تمثل كفاف العيش يسعى لأردن متكامل في اقتصاده وزراعته يعول على البسطاء.

وصفي التل: سأقول إسمك مجرداً بلا ألقاب ولا صفات، فالألقاب والصفات هي من تكبر بك وتتشرف بالإنتساب إليك، وصفي التل: السلام عليك يوم وُلِدتَّ، ويوم تموت، ويوم تبعث حياً بإذن الله راضياً مرضياً.

مرت يوم أمس الذكرى 52 لرحيل سيد الشهداء وصفي التل الذي اغتيل على درجات فندق شيراتون القاهرة بعد ان أنهى مشاركته في اجتماعات لوزراء الدفاع العرب، على إيدي زمرة حقيرة كانت تسمي نفسها أيلول الأسود.

حاربه الأقزام الذين لا يروق لهم حسن الصنائع فوقف سدا منيعا في وجوههم وحين كان يشعر انه لم يستطع الوصول إلى مبتغاه يتخلى عن المنصب بسهولة ويسر لان المنصب لم يكن يعني له سوى الخدمة العامة بعيدا عن المصالح الذاتية وكسب المال وجنى الزعامة وحب السيطرة. فعاش عفيفا زاهدا ومات كذلك في موقف جريء يتجلى فيه حب الوطن وحب فلسطين.

ولد وصفي التل عام 1919 في بلدة (عرب كير) التركية، والده شاعر الأردن الملقب بعرار وأبرز شعراء الشعر العربي المعاصر، وينتمي وصفي إلى (آل التل) إحدى أشهر العائلات في مدينة أربد، وحتى قيام الدولة الأردنية المستقلة عام 1946، عاش وصفي طفولته مع والدته في مدينة (عرب كير) حتى عام 1924، عاد بعدها إلى الجامعة الأمريكية في بيروت برفقه جده لأمه، وعندما بلغ سن السادسة من عمره التحق بالمدرسة الابتدائية في إربد وأنهى تعليمه الإبتدائي والثانوي في مدارسها، ثم أُرسل في بعثه دراسية إلى لمواصلة دراسته الجامعية وتخرج منها عام 1941 بدرجة البكالوريوس في العلوم والفلسفة.

برزت توجهاته السياسية في عمر مبكر وخلال دراسته في الجامعة، تأثر في أفكاره السياسية وشارك في تأسيس جمعيات سريّة أثناء الدراسة لدعم النضال العربي ضد إسرائيل وتحقيق الآمال العربية في الوحدة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. التحق في خدمة الجيش البريطاني في فلسطين وتخرج من الكلية العسكرية في بسبب ميوله القومية والعربية، وعمل في المكتب العربي في التابع لجامعة الدول العربية وكان أحد أعضاء اللجنة المعنية بكتابه تقرير عن قضية عرب فلسطين وتقديمه للجنة التحقيق في الأمم المتحدة. التحق وصفي أيضًا بجيش الإنقاذ الفلسطيني بقيادة فوزي القاوقجي، وشارك في العمليات العسكرية في فلسطين وتسلم قيادة كتيبة اليرموك الرابعة.

اقترن اسم وصفي على الدوام في نفوس الأردنيين بالإخلاص والتفاني وتحقيق المنجزات، عمل على جميع المستويات الداخلية والخارجية من أجل الأردن، واكتسب شعبية واسعة بين أبناء الشعب الأردني لشجاعته ونظافة يده وقيادته حربًا ضد الفساد وهدر المال العام، أعلن في عدة مناسبات بأنه سيقطع اليد التي تمتد إلى أموال الناس، اهتم بتطوير الأردن على مختلف المجالات وكان قريبًا من كل الأردنيين فخصص يومًا من كل أسبوع لاستقبال المواطنين والاستماع إلى مشاكلهم ومطالبهم.

كان وصفي مقتنعًا بأن الأردن قادر على الاكتفاء ذاتيًا فيما يتعلق بالأمن الغذائي، فأنشأ مشاريع وطنية عديدة لدعم هذا التوجه وكانت الأرض بالنسبة له وما تنتجه هي نفط الأردن، عمل وصفي على إنشاء مؤسسات وطنية قادرة على جعل الأردنيين يعتمدون على أنفسهم في كل شيء متحررين من ضغوط الديون والمنح من الغير، وشهد الأردن في عهده العديد من المشاريع الإقتصادية والزراعية والتعليمية التي كان لها أكبر الأثر في نهضة الأردن، ففي عهده تم شق قناة الغور الشرقية (قناة الملك عبد الله)، وتأسيس الجامعة الأردنية وبناء سد الملك طلال الذي تم على أثره استصلاح آلاف الدونمات للزراعة في منطقة الأغوار الوسطى، بالإضافة إلى إنشاء الطريق الصحراوي أحد مشاريع النقل الحيوية في ربط شمال الأردن ووسطه مع محافظات الجنوب، كما شهد عهده تأسيس شركة الفوسفات وشركة البوتاس وتوسع الساحل الأردني على خليج العقبة لمسافة 100 كيلو متر جنوبًا، وتأسيس التلفزيون الأردني ومحطة الأقمار الصناعية ومستشفى الجامعة الأردنية وجريدة الرأي وإنشاء حزب الاتحاد الوطني ليكون دافعًا للحياة السياسية والحزبية في البلاد وغيرها من المنجزات التي جعلت من وصفي من أبرز السياسيين الذين طُبعت أسمائهم في ذاكرة الأردنيين لعدة أجيال.

تعاون وصفي التل الذي كان رئيسًا للوزراء آنذاك مع حابس المجالي في السبعينات لشن هجوم على قواعد الفدائيين في الأردن الذين كانوا يهددون العرش الهاشمي ويستخدمون الأراضي الأردنية للقيام بهجمات ضد إسرائيل، ودارت معارك بين الطرفين عُرفت تاريخيًا باسم (أيلول الأسود) بلغت ذروتها عندما خطف الفدائيون ثلاث طائرات مدنية وأجبروها على الهبوط في الزرقاء، واعتقلوا المواطنين الأجانب كرهائن، ثم قاموا في وقت لاحق بنسف الطائرات أمام الصحافة الدولية. شن الجيش الأردني وسلاح الجو بالطائرات والدبابات عدة هجمات على الفدائيين وقضى على آخر معاقل منظمة التحرير الفلسطينية وبقية المنظمات في مناطق جرش وعجلون وقُتِل في هذا الهجوم عدد كبير من قيادات منظمة التحرير الفلسطينية.

كان وصفي صاحب فكر قومي متحرر يشارك في جميع الندوات والمؤتمرات التي تعقد في العديد من دول العالم نصرة للقضية الفلسطينية وكان يردد على الدوام أن أفضل وسيلة لمقارعة العدو الإسرائيلي هي المقاومة الشعبية بسبب ما حصلت عليه إسرائيل من أسلحة ومعدات حربية متطورة من الدول الغربية فاقت في حجمها وتاثيرها جميع الدول العربية مجتمعة.

غادر وصفي التل إلى القاهرة لحضور اجتماع لجامعة الدول العربية مع الوزراء والزعماء العرب، ووُجِّهت عدة نصائح له بعدم المشاركة لوجود تهديد حقيقي على حياته إلا أنّه أصر على الذهاب، وفي نهاية الاجتماعات وأثناء عودته إلى الفندق، أغتيل وصفي التل في ردهة فندق الشيراتون في القاهرة بعدة رصاصات على يد أعضاء من منظمة أيلول الأسود، كان وصفي هو ثالث شخصية سياسية أردنية بارزة اُغتِيلَت بين عامي 1951 و1971 أولهما الملك عبد الله الأول والثاني هو رئيس الوزراء هزاع المجالي، اعتقل الأمن المصري المنفذين لكن السلطات المصرية أفرجت لاحقًا عنهم دون عقاب ولا محاكمة.

نقل جثمان وصفي التل إلى عمّان في 28 نوفمبر، وفي اليوم التالي شيّعه الآلاف في الأردن وساروا خلف نعشه الذي حُمل في موكب عسكري مهيب يتقدمهم كبار المسؤوليين في الدولة وعلى رأسهم الملك الحسين حتى وصل موكب الجنازة أخيرًا إلى المقابر الملكية ودفن وصفي هناك، نقل جثمانه لاحقًا إلى ساحة بيته في غرب صويلح والذي تحول إلى متحف وطني يزوره الآلاف في كل مناسبة وطنية إحياءًا لذكراه.

تمت عملية إغتيال أبرز رمز أردني بنجاح بعد تخطيط جواد أبو عزيزة البغدادي، ومنذر خليفة، وزياد الحلو مع العقل المدبر لهم وهو فخري العمري، وبتؤاطؤ من المصريين تم إطلاق سراح قاتليه دون حساب او عقاب.

Exit mobile version