لم تبادر الدول الفاعلة في الملف اللبناني إلى الكشف عن المستور. وتحمل كل دولة في جعبتها عدداً من الأوراق الرئاسية، وهي تحاول عدم تكرار خطيئة فرنسا التي دخلت في لعبة الأسماء فاحترقت مبادرتها واضطرت إلى تبديل الفريق المعني بالملف اللبناني وتسليمه إلى الموفد الفرنسي جان- إيف لودريان الذي يشكو من فساد الطبقة السياسية، ولكنه انطلق بمهمته رسمياً ويلتقي قادة لبنان.
تعمل الدول الخمس التي تجتمع دورياً لمتابعة الملف اللبناني كل على حدة. فقد تسرّعت باريس بتبنّي مرشح «الثنائي الشيعي» رئيس تيار «المرده» سليمان فرنجية. وهذا الأمر ارتدّ سلباً على الدور الفرنسي التاريخي والعلاقة مع المسيحيين واللبنانيين. ولم تقل واشنطن كلمتها حتى الساعة، والأكيد هو وضع واشنطن مواصفات لا يمكن تجاوزها، وإلا لكان الرئيس انتُخب .
ومن جهة المملكة العربية السعودية، فهي تظهر كأنها تقف في الوسط، خصوصاً بعد قمة ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وأعلنت سابقاً بشكل واضح عدم وضعها أي «فيتو» على أي مرشح، لكن القطبة المخفية تكمن في ترك الأمور للحلفاء المتشددين أصلاً، ما يعني منع محور «الممانعة» من إيصال مرشحه. وكان «حزب الله» ورئيس مجلس النواب نبيه برّي يراهنان على ضغط سعودي للسير بفرنجية وفرضه على الداخل، وذلك بعد التقارب السعودي- الإيراني.
ويبقى من دول «مجموعة الخمس» التي تناقش ملف لبنان، كل من مصر وقطر، وهما تعملان من دون إظهار حقيقة موقفهما. وتستفيد القاهرة من القوة المعنوية التي تملكها في الشارع العربي، ولا سيما اللبناني. وتحاول قطر توظيف علاقاتها الجيدة مع الأطراف اللبنانيين وقدرتها على الحديث مع الجميع من أجل تسويق تسوية ما لحظة نضوج الأجواء المساعدة على انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
وينتظر كل من القاهرة والدوحة تداعيات ما بعد جلسة 14 حزيران وإبداء الأفرقاء رغبتهم في الحوار. والفرق بينهما وبين باريس أنهما تنسّقان خطواتهما مع الولايات المتحدة الأميركية والسعودية ولا تعملان، كما عملت إدارة ماكرون، على ترجيح كفة «الممانعة» و»حزب الله» على كفة بقية الأطراف. ولا يُخفي كل من القطري والمصري موقفهما من عدم قدرة البرلمان اللبناني على انتخاب رئيس من دون مساعدة خارجية، لكن اللافت في ما يردّدانه هو التأكيد على استحالة وصول فرنجية بسبب الرفض المسيحي العارم وترشيحه من قِبل «حزب الله» وعدم قدرته على حصد الأغلبية حتى في الدورة الثانية.
ومن جهة ثانية، يؤكد المصري والقطري صعوبة إيصال المعارضة و»التيار الوطني الحرّ» مرشحهما الوزير السابق جهاد ازعور، إلا إذا حصلت تسوية كبرى تُتيح إنتخاب رئيس تدعمه المعارضة. وهذا الأمر يحصل إذا ضغطت طهران على حلفائها في الداخل لقاء مكاسب داخل التركيبة اللبنانية، ولا يبدو أن مثل هذا الضغط سيحصل قريباً.
وأمام التعادل السلبي وعدم قدرة أي فريق على إيصال مرشحه نتيجة عدم امتلاك أحدهما أكثرية الثلثين وقدرة كل فريق على تعطيل النصاب، أكّد دبلوماسيون قطريون ومصريون في إحدى العواصم الكبرى أنّ كل الأمور تصبّ في اتجاه واحد وهو البحث عن خيار جدّي ثالث يحظى برضى واشنطن والرياض ولا يستفزّ طهران.
ويرجّح المصري والقطري ذهاب بوصلة الترشيح والإنتخاب في اتجاه قائد الجيش العماد جوزاف عون في حال بقي «الستاتيكو» القائم على ما هو عليه حالياً، وسبب ترجيح كفة عون هو موقعه المتقدّم وتأثيره على الأرض من خلال الإمساك بالجيش في أصعب فترة من تاريخ لبنان، والرضى الأميركي والسعودي على أدائه وعدم ممانعة الدول الفاعلة في وصوله.
وإذا كان رئيس «التيار الوطني الحرّ» النائب جبران باسيل يرفض وصوله، إلا أنّ حصول تسوية كبرى بين الدول الفاعلة ستؤدّي إلى وصوله حتماً، فالغطاء المسيحي مؤمّن لأنّ أكثر من نصف النواب المسيحيين ينتخبونه، إضافةً إلى موقف بكركي الداعم لانتخابه، بعكس فرنجية الفاقد للغطاء المسيحي.
إذاً، تنتظر الدول الفاعلة بعض الوقت لترسم سياستها الجديدة، وسط ضغط لإتمام الإستحقاق في أسرع وقت ممكن. وهنا يجري الحديث عن تحرّك قطري مرتقب بتنسيق مع الرياض وواشنطن يهدف إلى تعجيل الأمور ويكون على شكل «ميني دوحة»، ولا يُغلّب كفة فريق على آخر.
وتنتظر قطر الحصول على ضوء أخضر نهائي من دول «مجموعة الخمس» لتحوّل أفكارها إلى مبادرة حقيقية يكون عمادها انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتأليف حكومة متوازنة ومباشرة الإصلاحات، خصوصاً بعد التفكير القطري الجدّي بالإستثمار في لبنان في مجال الطاقة والخدمات.