مجافاة البنوك إعادة الهيكلة بعد نشوب الأزمة، دفعها إلى فرض «الخوات» للبقاء على قيد الحياة. فالمصارف فقدت بعد 17 تشرين الأول 2019 وظيفتها الأساسية كـ»منصة» تربط بين المقرضين والمقترضين وتحقق الأرباح من فرق الفائدة. وقد تحوّلت بين ليلة وضحاها إلى «مرابض» على جسر «الفريش» بين الداخل والخارج يقتنص العمولات. مرة جديدة يدفع المودعون ثمن معاداة المصارف للإصلاح، وعدم الاعتراف بالخسائر والبدء بالعلاج.
يتعامل المصرف مع عملائه من موقع المتحكم، وعلى قاعدة «الباب بيضهر جمل». فمن يعترض على سياساته، يُقفل حسابه ويعطى شيكاً مصرفياً بالمبلغ المستحق مسحوباً على مصرف لبنان. فيقع المودع بين خيارين أحلاهمها مر، إما سحبه المبلغ نقداً على سعر صرف 1500 ليرة، وتعرّضه لـ»هيركات» يتجاوز 90 في المئة، وإما وضعه في مصرف آخر لا تفرق سياساته عن مصرفه الاساسي. وبناء على هذه القاعدة من «السلبطة»، «استشرست» البنوك في فرض العمولات، التي تصفها جمعيات حماية المودعين والدفاع عنهم، بانها «إتاوات» أو جِزْية، تُعطى للمصرف كدليل على الخضوع».
العمولات تكوي المودعين
تبلغ عمولة خدمة الحساب المفتوح بالدولار النقدي 5 دولارات شهرياً. وتُفرض على كل عملية إيداع عمولة تبلغ 5 بالألف، إذا كان المبلغ أقل من 1000 دولار، وتصل إلى 7 بالألف إذا تجاوز المبلغ هذا السقف. أما بالنسبة للسحب، فتتراوح العمولة بين 2 و8 بالألف بحسب حجم المبلغ المراد سحبه. ويلزم المصرف عميله بشراء بطاقة إتمانية debit card لتسهيل السحب من الصرافات الآلية بسعر حده الأدنى 20 دولاراً، ويحمله أيضاً عمولة 2 دولار شهرياً على الرسائل SMS التي تصل إلى هاتفه الخلوي. ويتحتم عل العميل في حال استخدام البطاقة المصرفية للشراء من المتاجر داخل لبنان عمولة تتراوح بين 3.5 و5 بالألف، و7 بالألف في المتاجر خارج لبنان. وتبلغ العمولة على استخدام البطاقة في المشتريات 7 بالألف «ONLINE».
التحويل من الداخل إلى الخارج
قبول العميل سواء كان فرداً، أو مؤسسىة أو جمعية أو جهة داخلية أو خارجية بعمولات فتح الحساب ومصاريفه، يضعه أمام تحد جديد بالاستعمال، ونفقات لا تخطر على البال. فبشكل عام، ومع هامش اختلاف لا يتخطى 10 في المئة، تفرض المصارف اللبنانية على التحويل من لبنان إلى الخارج عمولة تتراوح بين 35 و70 دولاراً شهرياً إذا تراوح المبلغ حتى 100 ألف دولار. أما في حال تجاوز المبلغ المحول 100 ألف دولار فتصبح عمولة التحويل 2 في المئة.
من الخارج إلى الداخل
تتقاضى المصارف عمولة على التحاويل من الخارج إلى الداخل بحسب الشطور وهي تبلغ: 20 دولاراً للمبلغ الذي يقل عن 100 ألف دولار، و 30 دولاراً للمبلغ الذي يتراوح بين 100 و200 ألف دولار، و50 دولاراً للمبلغ الذي يفوق 200 ألف دولار وتزيد العمولة كلما زاد المبلغ.
الحوالات الداخلية
تبلغ العمولة من حساب مصرفي إلى آخر في الداخل عبر مصرف لبنان بين 8 و15 دولاراً. وفي حال التحويل للمراسلة الخارجية فان العمولة تتراوح بين 27 و35 دولاراً.
لا عمولات موحدة
في ما مضى كانت جمعية المصارف تضع الحد الأدنى للعمولات الواجب على المصارف تقاضيها. والأخيرة كانت تُعفي عملاءها من الكثير من العمولات، أو تتقاضى بدلاً رمزياً. فكشف الحساب على سبيل المثال كان يعطى مجاناً، فيما أصبح يكلف اليوم بين 20 و35 دولاراً. أمّا عمولة Payment letter of (ادفع بموجب هذه الرسالة من صاحب الحساب إلى زبون ما) فاصحبت تتراوح بين 5 و7 بالألف، فيما كانت شبه مجانية في السابق. فـ»كل مصرف يغني على ليلاه»، يقول خبير المخاطر المصرفية، د. محمد فحيلي، «لا مصرف لبنان يلعب دوره كضابط إيقاع ولا «جمعية مصارف لبنان» تعمل على توحيد المعايير مع ترك هامش من حرية التحرك كما كانت تفعل سابقاً».
في الحقيقة إن تأمين الفريش دولار أصبح اليوم مكلفاً على المصارف بالمقارنة مع فترة الرخاء الماضية»، يقول فحيلي، و»قد تكون المصارف معذورة في تقاضي هذه العمولات بـ»الفريش»، وتحديداً على التحاويل من الداخل إلى الخارج. إنما من غير المفهوم تقاضي المصارف عمولات كبيرة على الدولارات الواردة. وبهذه الطريقة يناقضون أنفسهم، فقط من أجل تعويض خسائرهم من الفوائد على التسليفات، على غرار التاجر الذي يعود للتفتيش في دفاتره القديمة عندما يفلس».
العمولات تساعد على الاستمرار
السؤال الأول الذي يتبادر إلى الأذهان هو إن كانت هذه العمولات تكفي لسد المصاريف التشغيلية للمصارف وتعوض خسارتها للودائع والفوائد. يجيب فحيلي أن «المصارف تتأقلم مع الواقع الجديد. وإذا ما أخذنا في عين الاعتبار إلى جانب العمولات بالفريش دولار، الفوائد التي ما زالت تتقاضاها على سندات الخزينة بالليرة، وتعمّدها إقفال الفروع وصرف الموظفين، وتقليص عملياتها نستطيع الاستنتاج أن هذه الايرادات تؤمن نفقاتها وتكفيها للصمود بالحد الأدنى. ولا سيما مع تخلصها من تكاليف توسيع الخدمات المصرفية وحصرها بالمهم والضروري فقط.
على الرغم من أن هذه العمولات مكلفة جداً بالنسبة إلى قدرات المواطنين والوضع المعيشي اللبناني، ومرهقة للمودعين، المحولة أموالهم من دولار إلى «تراب»، لا يوجد بديل أو قدرة للاستغناء عن استعمال المصارف. فالتحويل عبر شركات الأموال يخضع لضوابط وسقوف صغيرة، فيما تكلف العمليات الكبيرة أضعافاً مضاعفة ما تكلفه عبر المصارف.
عمولات استنسابية
«الامور لا تقف عند عمولات السحب والتحويل وفتح الحساب، والتي للإشارة ما زالت تعتبر أقل مما تتقاضاه بعض المصارف في الخارج، إنما تتخطاها في بعض الأحيان إلى عمولات استنسابية واعتباطية»، يقول عضو رابطة المودعين المحامي نزار غانم، «كأن تعمد المصارف على سبيل المثال أخذ عمولة على قبول المئة دولار القديمة طبعة العام 2006، بشكل يخالف المنطق والتأكيدات الأميركية على أن هذه العملة مقبولة ولا مشكلة فيها على الإطلاق. أو تفرض عمولات معماة من دون إعلام المودع، وغيرها الكثير من الطرق غير المهنية». الأمر الذي يدفع للاستنتاج برأي غانم أن «البنوك تحولت إلى دكاكين وابتعدت كثيراً عن أصول العمل المصرفي السليم. وأصبحت تعتمد في استمراريتها على العمولات مثلها مثل شركات تحويل الأموال».
الحاجة إلى الإصلاح
هذا الواقع يدفع للتساؤل بحسب غانم عن الغاية من وجود نحو 60 مصرفاً معظمها مفلس في المضمون ومستمر شكلياً كمكتب للسحب وقبض الاموال مقابل العمولات. والمطلوب الإسراع في إعادة هيكلة هذه البنوك على قواعد سليمة حماية للمودعين والاقتصاد. فانعدام الثقة بالمصارف لا يحرمها فقط من ممارسة دورها الطبيعي وتحول اتكالها على العمولات لتحيا وتستمر، إنما يحرم أيضاً الاقتصاد من مليارات الدولارات التي من الممكن أن تتدفق من الخارج والداخل إلى القطاع المالي في حال عادت الثقة بالمصارف، لتساهم في إعادة تحريك العجلة الاقتصادية».