في عالمنا الرقمي اليوم، يبدو أن ما كان في الماضي يُعتبر أموراً عابرة، قد يتحول بين عشية وضحاها إلى أحداث جلل، فيصبح ما هو سخيف وما هو عابر مادة دسمة للجدل المستمر. مواقع التواصل الاجتماعي، التي كانت في البداية مجرد وسيلة تواصل بسيطة، أصبحت اليوم كمرآة تعكس تناقضات المجتمع بكل أبعاده، بل وأحياناً تتحول إلى ساحات معركة حقيقية تدار فيها حروب نفسية، وتُبنى فيها تصورات وتوجهات عامة، في بلاد تعيش تحت وطأة التغيرات السياسية والأزمات الاقتصادية والتقلبات العسكرية كلبنان.
لم تعد هذه المنصات مجرد وسائل نقل، بل أضحت في طياتها محركًا رئيسيًا للأحداث، وأحيانًا مغذيًا لصور مشوهة أو مضللة، مما يجعلها عنصرًا لا غنى عنه في تشكيل الوعي الاجتماعي.
عصر “المؤثرين السخيفين”!
في ضوء هذا العصر الرقمي، حيث تتفجر الأنماط الإعلامية، وتزدحم بالحالات التي يمكن تسميتها بـ “النجومية اللحظية”، يبرز لنا مشهد مزدحم بأشخاص يفتقرون إلى الخلفيات العلمية أو المجتمعية المؤثرة، ليصبحوا مشاهير بين عشية وضحاها، فقط لأنهم يقدّمون فيديوهات سطحية تتأرجح بين السخافة والترفيه، ولكنها قادرة على جمع الاعجابات والمشاهدات بشكل هائل.
هذه الظاهرة أشبه بموجة عابرة تثير الغبار وتخلف وراءها فجوة من الهباء، لكنها في نفس الوقت تعكس انجذاب المجتمع إلى المحتوى السريع، خاصة في لحظات تأزّم الأزمات الاجتماعية والسياسية، حيث يبدو أن الجمهور يهرب من الواقع إلى عوالم وهمية توفر له بعض الطمأنينة في خضم المجهول، عبر “الابراج” والتنبؤات الفلكية غير المدروسة والتاروت وقراءة الحظ من بعيد.
توثيق الحرب: بين الشفافية والتضليل
تحت جنح الحروب والأزمات، تتحول مواقع التواصل إلى ساحة حرب رقمية بكل معنى الكلمة. في الحرب الأخيرة التي عصفت بلبنان، امتلأت المنصات بمقاطع توثق الغارات الجوية، مشاهد الدمار، وبراءة الأطفال المدمرة في عيونهم. هذه الأشرطة المُلتقطة رغم بساطتها، لعبت دورا بارزا في نقل الحقيقة إلى العالم، ولكنها تحولت أيضا إلى أدوات توظّف في توجيه الرأي العام بشكل متحيز.وبذلك، نجد أن التوثيق الرقمي يحمل جانبين متناقضين: من جهة، يفضح الحقائق التي قد تحاول القوى الكبرى إخفاءها، ومن جانب آخر، يُمكن اعتماده لزيادة الهلع وتقديم صورة مشوهة تدعم أجندات سياسية معينة.
الانتخابات الرئاسية: ترند يتحول إلى معركة رقمية
في خضم الاستعدادات للانتخابات الرئاسية في لبنان، لا يمكن تجاهل الدور الكبير الذي تؤديه منصات التواصل الاجتماعي في تشكيل المشهد السياسي، اذ تحولت هذه المنصات عشية جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، إلى ساحة معركة رقمية على غرار المعارك الحقيقية. يتصدر قائد الجيش العماد جوزيف عون، المرشح الأبرز في هذا السياق، الصورة الرقمية وتتصاعد وتيرة التفاعل معه.ورغم أن هذه الديناميكية تعكس رغبة اللبنانيين في التغيير، فإنها تكشف لنا في الوقت ذاته كيف يمكن لمنصات التواصل الاجتماعي أن تتحول إلى أداة قوية للترويج والدعاية الانتخابية، حيث يُستغل فيها التأثير الرقمي لجذب المؤيدين أو نشر الشائعات. شبكات التواصل في لبنان، إذاً، تشبه حلبة سيرك تلتقي فيها السياسة مع الترفيه، ويعبر فيها المواطنون عن آرائهم، فتتداخل فيها الأجوبة الفورية مع الحقائق المشوهة، ويظل السؤال مفتوحًا: هل يمكن توجيه هذه القوة الرقمية لمصلحة الحقيقة والوعي الجماعي؟ أم أن الصورة ستظل ضبابية، وسط تضخم الأحداث وضجيج الصوت؟
“ترندات” الطعام: شغف اللحظة الذي لا يخمد
لم تعد منصات التواصل محض ساحات لتبادل الأفكار، بل تحولت إلى فضاءات ترفيهية تغذي شغف اللحظة بكل ما هو جديد وغريب. واحدة من أبرز هذه الظواهر هي “ترندات الطعام” التي اجتاحت الإنترنت بشكل مفاجئ. مجرد صورة لطبق مبتكر أو فيديو لتحضير وجبة بسيطة قد يحفز موجة من التجارب المنزلية في كل مكان.ورغم أن هذه الحالة تحمل في طياتها بعض الإيجابيات، كتشجيع الإبداع وجعل المطبخ مكاناً لتبادل الأفكار، إلا أنها تكشف عن جانب استهلاكي يندفع وراء تقليد الوصفات العصرية دون التفكير في صحتها أو مدى ملاءمتها لثقافة غذائية سليمة. وفي الوقت الذي قد يراها البعض وسيلة للتمتع بالإبداع، تبين لنا هذه الموضة أيضا الضغط الاجتماعي الناجم عن السعي المتواصل وراء آخر صيحات الطعام، وهو ما يعكس تهميشاً لثقافة الاستدامة والتغذية السليمة.
الأسلوب التشهيري مقصود!
بناء على ما تقدم، لا تقتصر الحياة الرقمية على الإيجابيات والابتكارات، بل تظهر أحيانًا تلك الوجوه السلبية التي تعزز من ثقافة الهجوم على الآخرين. وفي هذا الإطار، تقول المحامية ماريانا برو لـ “الديار” إن “التشهير الذي يتضمن قدحاً وذماً قد يشدّ الانتباه بشكل مؤقت لصاحب المحتوى، سواء على وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها، لكنه غالبا ما يولّد تأثيرات سلبية تفوق الفوائد المحتملة”. وتضيف أن “هذا الأسلوب قد ينتج منه زيادة المتابعين والمشاهدات بشكل سريع، لكن على المدى الطويل، يتسبب بفقدان الشخص لمصداقيته أمام الجمهور، الذي بات يبحث عن آرائه الموضوعية بدلاً من الانجراف وراء جدل عابر”.وفي هذا السياق، تشير برو إلى أن “التشهير قد يؤدي إلى عواقب قانونية، حيث يمكن للطرف المتضرر اتخاذ إجراءات قانونية، في حال إثبات نية الإساءة أو نشر معلومات غير صحيحة بهدف التشويه”.
الخبرة والعلم: تقاطعالخطوط وتكامل المعرفةفي سياق متصل، لا يمكن الحديث عن دور المدونين والمحتوى الرقمي في لبنان، دون التطرق إلى الخبرة والقدرة على تقديم مضمون بنّاء. ويؤكد الخبير في مواقع التواصل الاجتماعي جورج سمعان لـ “الديار” أن “المدون يجب أن يتمتع بخبرة ومعرفة واسعة في المجال الذي يتناول فيه المحتوى، بحيث يقدم تقييمات موضوعية ومبنية على الحقائق، دون اللجوء إلى الإساءة أو الأساليب السلبية”.ويمضي سمعان إلى القول إنه “في لبنان، أصبحت مهنة المدون شائعة في السنوات الأخيرة، بفضل منصات مثل انستغرام وفيسبوك وتيك توك، حيث يشارك المدونون تجاربهم الشخصية مع متابعيهم عبر الصور والفيديوهات”. ولكن، يرى سمعان أن “هذا المجال يعاني من انعدام المصداقية لدى العديد من صناع المحتوى، الذين يتوجهون إلى تقليد الوصفات وترويج تجارب لا تمت إلى الواقع بصلة”.
مهنة من لا مهنة له!
الى جانب ما تقدم، فان أحد أبرز الإشكاليات في هذا المجال يتعلق بتسويق المحتوى الرقمي الذي يستغله البعض لتحقيق مكاسب شخصية. ويقول أحمد عماد وهبي، صاحب مطعم ويقدم محتوى متعلقاً بتقدير المأكولات لـ “الديار”، “في لبنان هناك سوء فهم حول الأشخاص الذين يتحدثون عن الطعام باعتبارهم مدونين. فالحقيقة أن غالبية هؤلاء ليسوا نقّاد طعام حقيقيين، بل صناع محتوى ينقلون تجارب سطحية لزيادة المتابعين”. ويضيف: “بالنسبة لي، أعتبر نفسي مميزا ومختلفا بين صناع المحتوى لأنني لا أخدع الناس، وأقول الحقيقة سواء كانت المأكولات جيدة أو لا، لأن الثقة هي العنصر الأهم في كسب متابعة الجمهور”. ويختم بالقول: “في لبنان، هناك استغلال مادي لهذه الظاهرة، إذ يمكن لبعض صناع المحتوى أن يتلقوا مقابلاً مادياً ليشيدوا بأطعمة لم تكن تستحق الثناء”.