الفارق الأساس بين الشغور الرئاسي السابق والشغور الحالي يكمن في الانهيار المالي الذي سيضع المعنيين أمام خيارين لا ثالث لهما: الانتخاب أو الفوضى. تتضاءل تدريجاً قدرة الدولة على دفع مستحقاتها من رواتب وطبابة ودواء وكهرباء وغيرها، وستصل في وقت قريب لتعلن عجزها عن الدفع بعد تبذير ما تبقّى من عملة صعبة ضمن الاحتياطي الإلزامي الذي هو كناية عن أموال المودعين، هذا عدا عن احتمال التوقُّف عن الإنفاق عن طريق الصرف الاضطراري، والذي سيؤدي، في حال حصوله، إلى فوضى في الداخل، لأنه مع التوقّف عن دفع الرواتب ومستلزمات القطاعات الحساسة والحيوية والاستراتيجية في الدولة يتحوّل الشارع إلى الحل الوحيد.
فالوضع المالي المُختلف هذه المرة عن المرة السابقة يَنسف مقولة «النفس الطويل» التي يتغنى بها «حزب الله» ويرددها في كل محطة ومناسبة، لأنّ الانهيار يقطع النفس ويُسقط المكابرة ويضع الجميع أمام الأمر الواقع، والحزب الذي لا يستطيع مواجهة الإشكالات التي تشهدها المناطق الخاضعة لنفوذه وتأثيره، لن يتمكّن من مواجهة جيوش الموظفين والغاضبين الذين لن يبقى أمامهم بعد فترة سوى الشارع وإلا الموت جوعاً.
وقد نجحت الدولة في التكيُّف مع الانهيار، ونجاحها مَرده إلى ضبط الإنفاق من الاحتياطي الإلزامي على رغم ان هذا الإنفاق غير مشروع لأنه يُبدِّد ما تبقّى من ودائع الناس، وبالتوازي مع تلاشي الكتلة النقدية المتبقية بالعملة الصعبة فإن الإدارة الجديدة لمصرف لبنان ستجد نفسها أمام حلّين: إما الاستمرار في السياسة النقدية السابقة التي تعهدّت بالقطع معها، وإما رفض إقراض الدولة، وهذا هو الصحيح والطبيعي. لكنّ فشل الدولة في جباية الرسوم والضرائب وضبط الحدود والمعابر سيدفع باتجاه السقوط المدوي للبلد.
وما تقدّم يؤكد انّ رواية او سردية الشغور المفتوح والنفس الطويل غير صحيحة، والتنفّس الاصطناعي الذي يخضع له لبنان اليوم يمكن تمديده لأشهر، ولكن لا يمكن الكلام عن سقف زمني مفتوح، وما صَحّ سابقاً لا يصحّ اليوم. وعندما تأتي ساعة الحقيقة سيكون الجميع أمام الامتحان والتنازل، لأنّ أحداً لا يريد انزلاق لبنان إلى فوضى تدخل البلد في فصول مجهولة يصعب التحكُّم باتجاهاتها.
ويظنّ الفريق الذي يصرّ على معادلته «مرشحي أو الشغور» انه مُمسك بزمام المواجهة الرئاسية، وانّ المبادرة بيده وأخصامه سيرضخون لشروطه، ولكن ما يدركه او لا يدركه ربما انه سيضطر عاجلا أم آجلا إلى تسليم المفاتيح الرئاسية إلى اللجنة الخماسية إذا كان يريد تجنُّب الفوضى، التي سيكون أول المتضررين منها، كونه المستفيد الأول من الستاتيكو الحالي الذي يمكِّنه من الإمساك بمفاصل الدولة.
فرفض التقاطع على مرشّح توافقي يشكل انعكاسا لميزان القوى القائم، والإصرار على معادلة غالب ومغلوب، وإبقاء الشغور مفتوحا لتغيير المعادلات الداخلية، سيؤدي هذه المرة إلى تدويل الاستحقاق الرئاسي بالكامل، لأنّ من يملك القدرة على التعطيل لا يملك القدرة نفسها على وقف الانهيار ومنع الفوضى التي سببها تَبخُّر العملة الصعبة، فسيأتي من يضع اللبنانيين أمام خيارين: إمّا تَركهم وشأنهم، أو انتخاب المرشّح الذي تختاره الخماسية ومقابل هذا الانتخاب يتلقى لبنان الدعم المطلوب لفرملة كوابح الانهيار.