الفراق هو المرض الصامت، والقاتل القاهر، والجرح الذي لا يبرأ. هو ايضا من يعيش أوضاعا اقتصادية صعبة وفقرا مدقعا يحرمه من ابسط حقوقه ليعيش العيد وفرحته. وقد يعتقد الكثيرون ان جوهر العيد في لباس جديد، او فرصة للهو مع الأقارب والأصدقاء او مناسبة لتناول الاطايب والمشتهيات. ولكن هل تناهى الى اذهانكم لمرة كيف يعيش من فقد عزيزا او من تكدّرت حياته، سيما ان لبنان لا يزال يعيش في زمن الميلاد ، حيث العائلات تجتمع على مائدة واحدة وتتشارك ليس فقط أطراف الحديث، وانما يتشاطرون الفرحة، وهي أسمى شعور يعيشه الانسان، وتجعله ليس فقط مسرورا ، وانما متفائلا وتُسهم في رفع معنويات الافراد جميعا.
ما بين الفقر والفقد حرف واحد!
ابتهاج لا يخلو من غصة في العيد، لعائلات فقدت عزيزا ، او لأولئك الذين تكدّرت معيشتهم بسبب الازمة الاقتصادية والمعيشية التي تخيم على عشرات الآلاف من العائلات، والحزن يلف أروقة منازلهم والوجع يكاد يكون واحداً. والفقر وريث للفقد، لأنه يدفع بالإنسان الى تذكّر كل المآسي التي ألمت به، وجعلته يستذكر همومه ليصبح غير قادر على الصمود.
ومن هنا، فان الضغط النفسي في فترة الأعياد يتضاعف لدى هاتين الفئتين ، بحيث يجدون ان الجميع مبتهج ومسرور ، على عكسهم لانهم لا يستطيعون مجاراتهم في الفرح، والانفصال عن الواقع يمسي صعبا، وعملية اقناع الذات بأن الصحة جيدة كذلك الترابط العائلي، الا ان الوضع المادي قد ينسف كل هذه الأمور الإيجابية، ويحولها الى ذبذبات سلبية لعدم قدرتهم على شراء ثياب جديدة لأولادهم او تحضير عشاء بسيط.
«لأ مش معيّدين»
والدة الشهيد جو عقيقي الذي قضى في تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020 والذي كان يعمل في الاهراءات تقول لـ «الديار»: « منذ نحو السنتين والنصف كان آخر عيد يجمعنا بجو، عندئذ قلت له صلّي يا امي، ليُجيبني «عم صلي لوحدي، ما تعتلي همي، بس وقتي ما عم بساقب مع وقتكن بالصلاة»، وتتابع السيدة نهاد «كنا نصلي معا ، الا انه يومذاك كان العيد الأخير عندما رفع جو كأسه وقال: «عقبال كل سنة نحن واياكم».
وتقول: «كنا نعيش بسعادة في بيت مفعم بالدفء ورغم الظروف كنا سعداء». وتردف الوالدة المفجوعة، «لاء نحنا مش معيدين، ولم يتبق لنا من العيد سوى حكايات وذكريات جو، وحنين يمزق قلبي، وهنا ينزف الجرح أكثر وعلاقتنا أصبحت روحية»، وتصف حالها قائلة: «انا بتّ غير قادرة على الاستمتاع بالحياة، والكف الذي تلقيناه لم يكن صدفة كذلك وجود جو، فغيابه طوى صفحة كبيرة، ونعيش لتمرير الحياة فقط، وانا أصبحت فارغة من الداخل، وما زلنا نرتدي الأسود حدادا عليه، حتى اشعر ان دمي بات اسود لكل هذه الأسباب. لا يوجد عيد ولا شجرة او زينة، فالمرة الأخيرة كانت عندما وضعها جو».
الإيجابية السامة
تقول الاختصاصية بعلم النفس العيادي كارلا اوانيس راشد لـ «الديار»: نعني بمفهوم الإيجابية السامة التعميم المفرط لمفهوم السعادة والتفاؤل، وهذا ما نراه على مواقع التواصل الاجتماعي، مما يؤدي الى حالة من النكران والتقليل من المشاعر البشرية الفطرية ،وما يعيشه الفرد من حزن والم وفقدان وتتمثل في عدة اشكال وطرق:
-التقليل من قيمة المشاعر الحقيقية التي يشعر بها الفرد في لحظة معينة.
-الإحساس بالسوء او تأنيب الضمير تجاه مشاعر الفرد الحالية، خاصة إذا كانت مشاعر سلبية كالحزن او الفقدان.
-ارتداء قناع مزيف امام الآخرين لإخفاء المشاعر الحقيقية.
-التظاهر بأن كل شيء على ما يرام والواقع ليس كذلك.
-المبالغة في استخدام مفردات تحفيزية إيجابية، ما يقلب الأمور رأسا على عقب، أي لتتحول الى الإحساس المخزي.
قاعدة ليست للجميع
تتابع راشد في هذا السياق فتقول: « العيد طقس من الطقوس الجميلة التي يحتفل بها الناس، الا انها ليست قاعدة للجميع، وفي معظم الأحيان هذه الجلسات التي يكون فيها اجتماع عائلي تضم افرادا من الاسرة وأصدقاء مقربين تصبح كروزنامة تذكرنا بفقيد عزيز، حتى لشخصين كانا في علاقة وانفصلوا او لعائلات ذات فقر مدقع، والعيد يصبح كتنبّه للأشياء التي فقدناها او نعيشها على صعيد الاحاسيس الحزينة، وهذا يسبب حزنا ووحدة ومشاعر سلبية والكثير لا علم لهم كيف يتعاملون مع هذه المناسبات». وتلفت الى «ان المجتمع احيانا يجعل الفرد يحس بالذنب لعدم ترجمة الحزن والحداد على الأرض من خلال طقوس معينة مثل اللباس واقصاء المرء لنفسه عن أي احتفال».
حالة انفعالية
ووفقا لعلم النفس، فالشعور بالذنب حالة انفعالية تتضمن مشاعر هالكة نابعة من ضمير الفرد لقيامه فعلا او حدثا يعكس عليه اسفا شديدا. وهناك تعريفات مختلفة أحيانا ومتداخلة في أحيان أخرى لتعريف مفهوم الشعور بالذنب، والثابت هو ان هذا الإدراك عبارة عن مخاض عسير يختلج في أعماق الفرد ويكون على هيئة حوار بينه وبين ذاته، او بين الانا والانا الأعلى.
وفي لغة علم النفس يناقش ارتكاب الفرد للذنوب والآثام او لأفعال يراها المجتمع خارجة عن إطار العادات والتقاليد السائدة، وفي هذا المجال تقول راشد « قد لا يعرف المرء لماذا هو حزين او لا يريد ان يعيش هذا الحزن، الا ان المقرّبين يقنعونه بأنه يجب ان يكون قويا ومتماسكا لأننا في موسم الأعياد، وهذا ما يدفعه ليشعر بالذنب أكثر، عدا انه يمر بكل هذه التخبطات النفس-عقلية في هذا الظرف الذي يعيش».
تتابع «من المهم على المحيطين من هؤلاء الأشخاص ان ينتبهوا لهم، ولكيفية تقديم المساعدة واستخدام العبارات التي لا تجعلهم يشعرون بالإحباط النفسي او الذنب». وتضيف «إذا لم يعش المرء تجربة الفقر او الفقد لا يعني انها غير موجودة ومن هنا الوعي يفرض علينا التنبه الى الفرد الذي يعيش هذه التجارب، وكيف يرى الحقيقة، وما هي الاحداث المؤلمة بالنسبة له، وهل هذا يفضي له الاستقرار النفسي ام لا»، وتلفت «الى وجوب طرح كيفية تقديم المساعدة او وسائل تمرير هذه المرحلة الصعبة بأقل حزن وغصة، لذا يجب ان نستمع للشخص «المعاني» ما الذي يريده لتقديم العون له على النحو المطلوب او الذي يرضيه نفسيا».
المرء سيد نفسه
ان قمع الدموع لا يخفي الحزن، كما ان الشعور بالوحدة والخوف رد فعل طبيعي على ما يعيشه الفرد. وفي هذا الإطار تقول راشد «على الافراد الذين يتذكرون احباء خسروهم او يعيشون مشاعر مختلطة من الحزن والهم، او ظروفا صعبة كالفقر والحرمان، التفقّه الى ان هذه الأمور شائعة عند الجميع، واقناعهم انهم ليسوا الوحيدين الذين يمرون بهذه الفترة القاسية والغليظة، كما يجب الا يشعروا بالخطيئة لمجرد مشاركتهم في أي مناسبة». بالإشارة الى وجود أسباب كانت الدافع للوصول الى هذه الحالة، وتغمز بالقول: « من المهم ان يكون المحيطون بهذه الفئة المحبطة افراداً داعمة وإيجابية ومشجعة».
وتؤكد راشد انه « من المهم للمر المكتئب، او الحزين ان يخلد ذكرى فقيده من خلال قصد الأماكن التي كان يحبها المأسوف عليه شرط ان يكون الشخص جاهزا للقيام بهذا الشيء، أيضا على الفئة الأخرى التي تعاني نقصا وحرمانا ان تقلص من متابعة مواقع التواصل الاجتماعي التي قد تعكّر نقاء الذات وصفو النفس وتقلب المواجع».
وتخلص كارلا لتنصح الذين يعيشون اكتئاب العيد بالقول: « في حال تطور الموضوع وابتعد عن سياقه الطبيعي وزاد عن حده، لجهة عدم قدرة الشخص المعاني في تجاوز هذه الحالة اليائسة والحزينة، والحد من الأفكار السوداوية وتضاعف الشعور بالوحدة، وأصبحت أفكار الموت طاغية للإقبال على الحياة، هنا يجب التوجّه الى اختصاصي للمساعدة والا الحالة ستخرج عن طورها.