في نهاية حزيران، انتهت المهلة التي طلبتها الحكومة لإنجاز التصحيح الحقيقي والعادل للرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية للجميع استناداً إلى وحدة المعايير، وبما يحقّق الإنصاف بينهم جميعاً.
هذا التعهد الرسمي والعلني جاء إثر التحرّكات والاعتصامات التي عطّلت انعقاد مجلس الوزراء لثلاث جلسات. وتحت ضغط الاستعدادات لمزيد من التصعيد، شكّل رئيس الحكومة لجنة خاصة طلب إليها إعداد الصيغة المناسبة لتنفيذ هذه المهمة قبل نهاية حزيران، فجرى تعليق أي تصعيد. هذا الواقع، يرسم معالم المرحلة المقبلة، لأنه من الضروري مصارحة الرأي العام وإطلاعه على الدوافع والأسباب التي تفرض العودة إلى التصعيد بهدف استعادة بعض من حقوق كل العاملين في القطاع العام.
صحيح أن الحكومة أقرّت على مدار السنوات الثلاث الماضية تعويضات مؤقتة (ما يوازي 9 رواتب للجميع لم تتجاوز نسبته 15% من قيمة الرواتب والمعاشات التقاعدية عشية 17 تشرين 2019)، لكن الواقع أن هؤلاء خسروا 98% من القوّة الشرائية لأجورهم، وتعاملت معهم القوى السياسية على النحو الآتي:
- اعتمدت سياسة المماطلة والتسويف والإلهاء والتذرع بالظروف والإمكانات واللعب على الوقت للتنصل من التزاماتها.
- لجأت إلى سياسة التمييز والمفاضلة والكيل بمكاييل متعددة بين القطاعات الوظيفية المختلفة من جهة، وبينها وبين المتقاعدين المدنيين والعسكريين من جهة ثانية.
- بدأت بإقرار سلسلة من التعويضات المؤقتة والزيادات والعطاءات والهبات والمساعدات والرشوات والمراهم الوهمية تحت الضغوطات مرة، ومرات كإغراءات ورشوات تهدف إلى إسكات أو كسب ودّ بعض القطاعات الأخرى.
- خضعت لضغوطات بعض القطاعات ومنحتها زيادات وبدلات متنوعة وحوافز وبدل مثابرة وبدل ساعات ليليلة ونهارية وغيرها مما راوح مجموعه بين الـ 300 دولار كحدّ أدنى والـ 1648 دولاراً كحدّ أوسط وصولاً إلى 2500 دولار، وذلك بحسب كل قطاع ومدى حاجة الحكومة إليه أو مدى تأثيره في حال لجوئه إلى الإضراب.
بعض الأمثلة عن كيفية تعامل الحكومة مع مختلف القطاعات:
أ- بالنسبة إلى الأساتذة والمعلمين، وبعد إضراب طويل ولأشهر أدّى إلى تعطيل العام الدراسي والامتحانات الرسمية، منحتهم الحكومة مبلغاً مقطوعاً يساوي 300 دولار شهرياً خلال أشهر الدراسة. وخشية تكرار الإضراب وتعطيل الامتحانات الرسمية، جرى تمديد استفادتهم من هذه الزيادة خلال عطلة الصيف من موازنة وزارة التربية.
ب- نفذ القضاة إضراباً مفتوحاً عطّل المحاكم لأشهر، فأقرت الحكومة لمن في الخدمة 1500 دولار تُدفع من صندوق التعاضد الذي يتغذّى أساساً من الأموال العامة.
ج – أقرّت الحكومة لأساتذة الجامعة، بعد إضراب طال أمده وهدّد مصير العام الدراسي، زيادتين: الأولى بقيمة 1000 دولار شهرياً من صندوق التعاضد الذي يتغذّى من الأموال العامة، والثانية 648 دولاراً شهرياً تدفع من موازنة وزارة التربية التي هي أساساً من الأموال العامة.
د- بعدما تجاوز إضراب الموظفين الإداريين السنة، حصّلوا من الحكومة بعضاً من حقوقهم وفي مقدمتها بدل مثابرة (يراوح بين الـ 15 مليون ليرة والـ 25 مليوناً حسب فئاتهم) وبدل صفائح بنزين (تراوح بين الـ 8 والـ 16 صفيحة حسب فئاتهم).
ه – أما أفراد الضابطة الجمركية، فقد زيدت بدلات ساعات حضورهم النهارية والليلية أضعافاً مضاعفة.
و- حصل متقاعدون على مبلغ مقطوع بقيمة 400 دولار يُدفع من صندوق التعاضد.
ز- أُقرّ لمتقاعدي القضاة 300 دولار شهرياً تُدفع من صندوق تعاضد القضاة
.
نعرض هذه الوقائع لإظهار الآتي:
- إن جميع الزيادات والبدلات والتعويضات مؤقتة، وتبقى خارج الراتب ولا تُحتسب في تعويضات نهاية الخدمة ولا في المعاش التقاعدي، وهي عرضة للخفض والإلغاء في أي وقت. ورغم كل «المراهم» والرشوات الواهية، لا يتخطّى أعلى راتب للمعلمين 27% من مجمل ما كانوا يتقاضونه في 2019، وما بين 30% و43% للموظفين الإداريين، و55% للقضاة في الخدمة كحدّ أقصى، وبين 50% و56% لأساتذة الجامعة في الخدمة، ولا يتخطّى 15% للمتقاعدين المدنيين والعسكريين.
- تخبّط واستنسابية وتمييز بين القطاعات الوظيفية التي تحكمها القوانين والمراسيم المرعية الإجراء.
- ضرب القواعد والأسس القانونية الناظمة للرواتب والمعاشات للمتقاعدين وأسس احتسابها وفقاً لقانون الموظفين الذي ينصّ على قاعدة 85% من آخر راتب تقاضاه. هكذا خضعت الحكومة لإملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تحت شعار «إنهاء بدعة التقاعد» كمقدمة لإنهاء الوظيفة العامة واعتماد الخصخصة والتعاقد الوظيفي. وهذا يؤدي إلى الانقضاض على الحقوق المكتسبة للمتقاعدين المدنيين والعسكريين، ومن أبرزها الاقتطاع الشهري من رواتبهم أيام الخدمة لتكوين أرصدة تقاعدية. الآن، جرى تحويل هؤلاء إلى متسوّلين أمام أبواب الصيدليات والسوبرماركت ومحطات الوقود وأبواب الأفران…
إزاء هذا الوضع، نطالب الحكومة، بالمبادرة سريعاً، في مطلع الأسبوع المقبل، إلى الانعقاد لإقرار الحد الأدنى المقبول من المطالب:
- تصحيح حقيقي للرواتب والأجور والمعاشات التقاعدية للمدنيين والعسكريين بما يوازي 50% مما كانت عليه قبل 17 تشرين 2019.
- تصحيح مقسّط للـ 50% الباقية خلال سنة.
- إنهاء بدعة الحوافز والعطاءات والبدلات والتعويضات وغيرها، عبر دمجها في صلب الراتب لتثبيتها كحقوق مكتسبة.
- التمسّك المطلق بقانون الموظفين ورفض المساس بنسبة الـ 85% المعتمدة عند احتساب المعاش التقاعدي، واعتبار أي مساس بهذه النسبة خطّاً أحمر ومدعاة لانتفاضة عارمة في القطاع العام.
الحكومة أمام تحدٍّ جدّي وخطير، ونحذرها من التمادي في التلاعب بالقوانين وبالحقوق المكتسبة وبلقمة العيش وسياسة الكيل بمكيالين واللعب على التناقضات والتمييز بين القطاعات والإيهام بالبالونات الحرارية والوعود الدخانية التي سرعان ما تتبخر وتنجلي الحقيقة، فهل ستبادر أم ستدير الأذن الصمّاء لتجد نفسها وجهاً لوجه مع أصحاب الحقوق المكتسبة، وفي مقدمتهم المتقاعدون المدنيون والعسكريون؟